أقول :
أوّلاً : كيف يجترىء هذا الرجل على تكذيب أبان ووصفه بالإفتراء، وهو يستلزم تكذيب شيخه وإمامه الأعظم أبا حنيفة كما عرفت؟
وثانياً : أيّ تناقض بين كلام أبان ورواية الإحتجاج؟ وهل ادّعى أبان كون الحسن البصري من شيعة أميرالمؤمنين عليه السلام في زمان حكومته وحروبه؟ لقد قال أبان: «والحسن يومئذ من شيعة علي بن أبي طالب» ولا ريب أنّ الحسن كان يتظاهر بالتشيّع في تلك الأيّام الّتي التقى بها أبان، ولم يكن الحسن كذلك وحده، بل أمثاله ـ الذين كانوا يتظاهرون بالتشيّع وهم في الباطن منافقون ـ كثيرون..
وثالثاً : إنّ إبليس قد يدعو في بعض الأحيان إلى أفعال الخير، وهذا ما ينصُّ عليه كبار علماء أهل السنّة في مختلف الموارد، فقد ذكر الشيخ عبدالوهّاب الشعراني في كتاب (اليواقيت) عن الشيخ ابن عربي أنّ الشيطان يدخل حبّ أهل البيت في قلوب المؤمنين! وهذه عبارته:
«وأكثر ما يظهر ذلك ـ أي الضلال ـ بسبب الأصل الصحيح في الشيعة لاسيّما في الإماميّة منهم، فأدخلت عليهم الشياطين حبّ أهل البيت واستفراغ الحبّ فيهم، ورأوا أنّ ذلك من أسنى القربات إلى الله تعالى ورسوله، وكذلك هو لو وقفوا ولم يزيدوا عليه بغض الصحابة وسبّهم».
وفي (روضة العلماء):
«سمعت الشيخ الإمام أبا محمّد عبدالله بن الفضل، يحكي عن أبي حازم، عن الحاكم قال: لمّا خرج نوح صلوات الله عليه من السفينة واستقرّ، وهلك قومه، جاءه إبليس لعنه الله.
وقال: يا نوح! إنّ لك عندي يداً عظيماً، فاسألني ما شئت فأصدقك وأنصحك.
قال: فاهتمّ نوح صلوات الله عليه من كلامه، فأوحى الله تعالى إليه أن سله فإنّ عظته حجّة عليه. قال: أخبرني بما أغويت أخلاف بني آدم على هلكتهم.
قال: على الخبير سقطت يا نوح فاسمع.
هو الكبر والبخل والحرص والحسد، وساُنبّئك بذلك:
ألم تر أنّ الله تعالى لمّا خلق آدم، أمر ملائكة السماء السابعة بالسّجود له فسجدوا، فحملني الحسد إذ فُضِّلَ علَيّ أن لا أسجد له، فاُخرجت من جميع ملكوت السماوات، فزجرت، فصرت شيطاناً رجيماً، فهذا من الحسد.
ألم تر أنّ الله تعالى لمّا خلق آدم وأسكنه الجنّة وفوّضها بجميع ما فيها إليه ونهاه عن شجرة واحدة أن يأكل منها، فحمله الحرص أن يأكل منها، فاُخرج من جميع ما فيها، فهذا من الحرص.
ألم تر أنّ الله تعالى لمّا خلق الفردوس فنظر إليها فأعجبته فقال: أنت محرّمة على كلّ جبّار وعلى كلّ بخيل، فهذا في الكبر والبخل.
والله يا نوح! ما كتمتك وما غششتك، ولا ادّخرت عنك نصحك.
قال نوح صلوات الله عليه: فأخبرني باليد الذي لك عندي، فوالله إنّك لبغيض إليّ، فكيف أرضى باتّخاذ الأيادي عندك؟!
قال: بلى، إنّ قومك كانوا اُمّة من الاُمم كثيرة لا يحصي عددهم إلاّ الله تعالى وكنت منهم في عناء طويل، فدعوت ربّك فاُغرقوا، وصرت فارغاً لقوم آخرين».
وفي (الدر المنثور):
«أخرج ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان عن ابن عمر قال: لقي إبليس موسى، فقال: يا موسى! أنت الذي اصطفاك الله برسالته وكلّمك تكليماً إذ تبت، وأنا اُريد أن أتوب، فاشفع لي إلى ربّي أن يتوب علَيّ.
قال موسى: نعم. فدعا موسى ربّه، فقيل: يا موسى! قد قضيت حاجتك. فلقي موسى إبليس وقال: قد اُمرت أن تسجد لقبر آدم ويتاب عليك. فاستكبر وغضب وقال: لم أسجد له حيّاً أسجد له ميّتاً؟!
ثمّ قال إبليس: يا موسى! إنّ لك علَيّ حقّاً بما شفعت لي إلى ربّي، فاذكرني عند ثلاث لا اُهلكك فيهنّ: اُذكرني حين تغضب، فإنّي أجري منك مجرى الدم، واذكرني حين تلقى الزحف، فإنّي آتي ابن آدم حين يلقى الزحف، فاُذكّره ولده وزوجته حتّى يولّي، وإيّاك أن تجالس امرأة ليست بذات محرم، فإنّي رسولها إليك ورسولك إليها»(1).
لكن المراد من «الخير» هنا هو «الشرّ الأقلّ» إذ لا ريب أنّ اعتزال الحرب أقلّ شرّاً وضرراً من محاربة أميرالمؤمنين عليه السلام…
وكلّ ما يذكره القوم جواباً عن الأحاديث المذكورة وأمثالها، فهو جوابنا عن السؤال حول رواية (الإحتجاج)، وأنّه كيف منع إبليس الحسن البصري من دخول الحرب ضد أميرالمؤمنين؟
ورابعاً : لكنَّ الحقيقة هي: أنّ الشيطان أراد بقاء الحسن البصري في هذا العالم، لأنّه لو دخل الحرب لقتل ، فبقي كي ينفّذ إلقاءات الشيطان، بإحداث البدع والمنكرات في الدين، فيضلّه ويضلّل بسببه اُمماً من الناس… وهذا ممّا تجده أيضاً في أخبار القوم وكتبهم. قال أبوالفرج ابن الجوزي في (تلبيس إبليس):
«أخبرنا أبو محمّد ابن القاسم، قال: أخبرنا أحمد بن أحمد، قال: أخبرنا أبو نعيم الحافظ، قال: حدّثنا أبو محمّد، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد ابن يعقوب، قال: حدّثنا محمّد بن يوسف الجوهري، قال: حدّثنا أبو غسان النهدي قال: سمعت الحسين بن صالح يقول: إنّ الشيطان ليفتح للعبد تسعةً وتسعين باباً من الخير يريد به باباً من الشرّ».
وخامساً : إنّه كما دعا إبليس الحسن البصري إلى اعتزال القتال وقال له: القاتل والمقتول في النار، وصدّقه أميرالمؤمنين عليه السلام، كذلك قد علَّم إبليس أباهريرة أن يقرأ آية الكرسي إذا آوى إلى فراشه… فلمّا حكى ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صدّقه… وقد أخرج البخاري في (صحيحه) ذلك، وهذه رواية البخاري:
«عن أبي هريرة قال: وكّلني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: لأرفعنّك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: دعني فإنّي محتاج وعلَيّ عيال ولي حاجة شديدة. قال: فخلّيت عنه فأصبحت.
فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: يا أباهريرة! ما فعل أسيرك البارحة؟
قال: قلت: يا رسول الله! شكى حاجة شديدة وعيالاً، فرحمته فخلّيت سبيله.
قال: أما إنّه قد كذبك وسيعود.
فرصدته، فجعل يحثو من الطّعام فأخذته وقلت: لأرفعنّك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: دعني فإنّي محتاج وعلَيّ عيال، لا أعود، فرحمته وخلّيت سبيله. فأصبحت.
فقال لي رسول الله: يا أباهريرة! ما فعل أسيرك؟
قلت: يا رسول الله! شكى حاجة شديدة وعيالاً، فرحمته فخلّيت سبيله.
قال: أما إنّه قد كذبك وسيعود.
فرصدته الثالثة، فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنّك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهذا آخر ثلاث مرّات أنّك تزعم لا تعود ثمّ تعود.
قال: دعني اُعلّمك كلمات ينفعك الله بها.
قلت: ما هو؟
قال: إذا آويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: ( الله لا إله إلاّ هو الحيُّ القَيُّومُ )حتّى تختم الآية، فإنّك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتّى تصبح، فخلّيت سبيله، فأصبحت.
فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما فعل أسيرك البارحة؟
فقلت: يا رسول الله! زعم أنّه يعلّمني كلمات ينفعني الله بها فخلّيت سبيله.
قال: ما هي؟
قال لي: إذا آويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أوّلها حتّى تختم الآية ( الله لا إله إلاّ هو الحيُّ القَيُّومُ ) وقال: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتّى تصبح، وكانوا أحرص شيء على الخير.
فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أمّا إنّه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب مذ ثلاث ليال يا أباهريرة؟
قال: لا.
قال: ذاك شيطان»(2).
والألطف من ذلك كلّه: ما رواه القوم في مناقب خليفتهم الثاني، من تعلّمه فضل سورة البقرة من إبليس… قال الشيخ إبراهيم الوصابي اليمني الشافعي في كتاب (الإكتفاء):
«عن ابن مسعود: إنّ رجلاً من أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم لقي رجلاً من الجنّ، فصارعه صاحب محمّد فقال له الجنّي: عاودني، فعاوده فصرعه ثانياً، فقال له الصحابي: إنّي لأراك ختيلاً سخيفاً ذراعك ذراع الكلب، أفكذلك أنتم معشر الجنّ أو أنت منهم كذا؟ قال: لا والله إنّي منهم لضليع. ثمّ قال: عاودني الثالثة، فإن صرعتني علّمتك شيئاً ينفعك، فعاوده فصرعه، فقال: هل تقرأ آية الكرسي؟ قال: نعم. قال: فإنّك لا تقرؤها في بيت إلاّ خرج منه الشيطان، ثمّ لا يدخل حتّى يصبح.
فقال رجل من القوم: من ذلك الرجل، يا أباعبدالرحمن من أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم؟ هو عمر؟ قال: من يكون إلاّ عمر؟
أخرجه المحبّ الطبري في الرياض.
وفي اُخرى له رضي الله عنه قال: لقي رجل شيطاناً في سكّة من سكك المدينة، فصارعه فصرعه الرجل فقال: دعني، فإنّك إن تدعني اُخبرك بشيء يعجبك. فقال: لا أدعك حتّى تخبرني، وعَضّه في إصبعه. فقال: هل تقرأ سورة البقرة؟ قال: نعم. قال: فإنّ الشيطان لا يسمع منها شيئاً إلاّ أدبر وله عجيج كعجيج الحمار.
فقيل لابن مسعود: من ذلك الرجل؟ قال: ومن عسى أن يكون إلاّ عمر.
أخرجه عبدالله بن مسعود الأندلسي في كتابه الشفا»(3).
ومن لطائف الاُمور: وضعهم الأحاديث في فضائل خلفائهم والدفاع عنهم عن لسان إبليس نفسه…
ومن ذلك: ما رواه القاضي أبوبكر أحمد بن الضحّاك في (فضائل عمر)، والوصابي في (الاكتفاء في فضائل الخلفاء) والمحبّ الطبري في (الرياض النضرة في فضائل العشرة) نقلاً عن أحمد بن الضحاك، واللفظ للأخير:
«عن الأعمش قال: خرجت في ليلة مقمرة اُريد المسجد، فإذا أنا بشيء عارضني فاقشعرّ منه جسدي.
فقلت: من الجنّ أم من الإنس؟
فقال: بل من الجنّ.
فقلت: مؤمن أم كافر؟
فقال: بل مؤمن.
فقلت: هل فيكم من هذه الأهواء والبدع شيء؟
قال: نعم.
ثمّ قال: وقع بيني وبين عفريت من الجنّ اختلاف في أبي بكر وعمر، فقال العفريت: إنّهما ظلما عليّاً واعتديا عليه.
فقلت له: بمن ترضى حكماً بيني وبينك؟
قال: بإبليس.
فأتيناه فقصصنا عليه القصّة فضحك.
ثمّ قال: هؤلاء من شيعتي وأنصاري وأهل مودّتي.
ثمّ قال: ألا اُحدّثكم بحديث؟
قلنا: بلى.
قال: اُعلمكم أنّي عبدت الله تعالى في السماء الدنيا ألف عام، فسمّيت فيها العابد، وعبدت الله في الثالثة ألف عام فسمّيت فيها الراغب، ثمّ رفعت إلى الرابعة، فرأيت سبعين ألف صفّ من الملائكة يستغفرون لمحبّي أبي بكر وعمر، ثمّ رفعت إلى الخامسة، فرأيت فيها سبعين ألف ملك يلعنون مبغضي أبي بكر وعمر.
أخرجه القاضي أبوبكر أحمد بن الضحّاك في فضائل عمر بن الخطّاب»(4).
وإذا كان الخصم يرى أنّ الشيطان لا يدعو إلاّ إلى الشر، فهو ـ إذن ـ يعترف بكون حبّ الشيخين شرّاً لا خير فيه أبداً… وهذا من الأدلّة الإلزاميّة التي لا مفرّ لهم منها…
وسادساً : فإنّ خبر (الاحتجاج) قد رواه القوم في كتبهم وإنْ مختصراً…
قال القاضي أبو جعفر محمّد بن عمر الشعبي في (الكفاية):
«روي في الأخبار: إنّ عليّاً مرّ على الحسن البصري وهو يتوضّأ، فقال له: أسبغ الوضوء يا غلام. فقال الحسن لعلي: قتلت اُلوفاً ممّن كان يسبغ الوضوء.
وإنّما أراد به المحاربة التي وقعت بينه وبين معاوية، فقتل كثير من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم.
فقال له علي: أحزنك ذلك؟ فقال :نعم، فقال له علي: أحزنك الله تعالى».
وهذا الخبر يدلّ على شدّة نصب الحسن البصري وعناده لأميرالمؤمنين عليه السلام، فكان أخاً لإبليس حقّاً…
وقد حاول الشعبي ـ صاحب الكفاية ـ أن يذكر لدعاء الإمام على الحسن محملاً كيلا يدلّ على الذمّ له، فقال:
«ثمّ دعاء علي ليس على وجه الغضب، وإنّما أراد به أحزنك الله في أمر الدين، فاستجاب الله دعاءه. فروي أنّه لم يضحك بعد ذلك أربعين سنة».
لكنّه تأويل سخيف ومضحك، كما لا يخفى…
(1) الدر المنثور في التفسير بالمأثور 1 : 125 .
(2) صحيح البخاري 3 : 132 ـ 133/ كتاب الوكالة ، باب إذا وكّل رجلاً …
(3) الاكتفاء في مناقب الخلفاء ـ مخطوط . وانظر الرياض النضرة 1 : 361 .
(4) الرياض النضرة في مناقب العشرة 1 : 361/251 .