نشر العلم والمعرفة بشتّى الطرق
ثمّ إنّ نشر الأئمّة عليهم السلام للعلوم وتعليمهم الاُمّة معارف الدين، لم يقتصر على طريق من الطرق أو اُسلوب من الأساليب… بل لقد استفادوا لذلك من كافّة الوسائل وشتّى الطّرق، كالكتابة، والخطابة، والدعاء، والإملاء، والتدريس:
ففي الوقت الذي منعت الحكومة ـ ولأغراض عديدة ـ من تدوين السنّة النبويّة الشريفة، لم يقنع أميرالمؤمنين عليه السلام بأجوبة الإستفتاءات وحلّ المشكلات وتعليم العلوم، بل عمد إلى الكتابة أيضاً وحثَّ عليها… يقول الحافظ السيوطي:
«كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم، فكرهها كثير منهم، وأباحتها طائفة وفعلوها، منهم: علي وابنه الحسن»(1).
وما كتبه عليه السلام كان موجوداً لدى أبنائه، ينظرون فيه وينقلون عنه، كما لا يخفى على من راجع أحاديثهم…(2)
وكتب أيضاً كاتبه الجليل علي بن أبي رافع: «وهو تابعي، من خيار الشيعة، كانت له صحبة مع أميرالمؤمنين، وكان كاتباً له، وحفظ كثيراً، وجمع كتاباً في فنون الفقه، كالوضوء والصلاة وسائر الأبواب، وكانوا يعظّمون هذا الكتاب»(3).
وعن الإمام الصّادق عليه السلام مخاطباً أصحابه:
«أُكتبوا، فإنّكم لا تحفظون حتّى تكتبوا»(4).
«أُكتبوا، فإنّكم لا تحفظون إلاّ بالكتاب»(5).
«ما يمنعكم من الكتاب؟ إنّكم لن تحفظوا حتّى تكتبوا، إنّه خرج من عندي رهط من أهل البصرة يسألون عن أشياء فكتبوها»(6).
وورد الحثّ على الإحتفاظ بالكتب:
«إحتفظوا بكتبكم فإنّكم سوف تحتاجون إليها»(7).
وأمّا خطب الأمير عليه السلام من على منبر الكوفة، فما زالت محطّ أنظار أهل العلم ومحور أفكار أهل الفهم… فقد زخرت بأسرار الحكمة الإلهيّة، وكشفت عن أستار كثير من المعارف الدينيّة، واشتملت على اُمّهات الحقائق المعنويّة… فيها براهين إثبات المبدء والمعاد، ومباحث صفات الباري وآيات عظمته وحكمته…
ثمّ جاءت هذه المعاني في قالب الأدعية، على لسان حفيده الإمام السجّاد عليه السلام… وعرف بالصحيفة السجّاديّة.
وجاءت على شكل الإملاء عن الإمام الصادق عليه السلام فيما نقله المفضَّل بن عمر، وعرف بكتاب: توحيد المفضّل.
وأمّا جلسات الدّرس والسؤال والجواب، فعن الحافظ أبي العبّاس ابن عقدة الكوفيّ المتوفى سنة 333 أنّه وضع كتاباً في أسماء تلامذة الإمام الصادق عليه السلام، فذكر ترجمة 4000 رجل منهم(8).
وعن الحسن الوشاء: «إنّي أدركت في هذا المسجد ـ يعني مسجد الكوفة ـ 900 شيخ كلٌّ يقول: حدّثني جعفر بن محمّد»(9).
ومن هنا، انتشر التشيّع وأحاديث أهل البيت عليهم السلام بين أهل الكوفة، وأصبحت الكوفة مركزاً من مراكز الإشعاع الفكريّ لمذهب العترة الطاهرة، ومعقلاً من معاقل أتباعهم الأخيار، ودخلت رواياتهم في كتب أهل السنّة وخاصّةً صحاحهم المعروفة، فإنّهم ـ وإنْ نبزوهم بالرفض للمتقدّمين على علي عليه السلام ـ لم يتمكّنوا من رفض رواياتهم، لاتّصافهم بأسمى صفات الوثاقة وأتمّ شروط الإعتبار والإعتماد، حتّى قال الذهبي:
«أبان بن تغلب ]م، عو[ الكوفي، شيعي جلد، لكنّه صدوق، فلنا صدقه وعليه بدعته.
وقد وثّقه أحمد بن حنبل وابن معين وأبو حاتم. وأورده ابن عدي وقال: كان غالياً في التشيّع. وقال السعدي: زائغ مجاهر.
فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع وحدّ الثقة العدالة والإتقان، فكيف يكون عدلاً من هو صاحب بدعة؟
وجوابه: إنّ البدعة على ضربين: فبدعة صغرى، كغلوّ التشيّع أو كالتشيّع بلا غلو ولا تحرّف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، فلو رُدّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبويّة، وهذه مفسدة بيّنة»(10).
ولذا قال السيّد شرف الدين العاملي رحمه الله:
«وتلك صحاحهم الستّة وغيرها تحتجُّ برجال من الشيعة، وصمهم الواصمون بالتشيّع والإنحراف، ونبزوهم بالرفض والخلاف، ونسبوا إليهم الغلوّ والإفراط والتنكّب عن الصراط، وفي شيوخ البخاري رجال من الشيعة نبزوا بالرفض ووصموا بالبغض، فلم يقدح ذلك في عدالتهم عند البخاري وغيره، حتّى احتجّوا بهم في الصّحاح بكلّ ارتياح.
إنّ الشيعة إنّما جروا على منهاج العترة الطاهرة واتّسموا بسماتها، وإنّهم لايطبعون إلاّ على غرارها ولا يضربون إلاّ على قالبها، فلا نظير لمن اعتمدوا عليه من رجالهم في الصّدق والأمانة، ولا قرين لمن احتجّوا به من أبطالهم في الورع والإحتياط، ولا شبيه لمن ركنوا إليه من أبدالهم في الزهد والعبادة وكرم الأخلاق وتهذيب النفس ومجاهدتها ومحاسبتها بكلّ دقة، آناء اللّيل وأطراف النهار، لايبارون في الحفظ والضبط والإتقان، ولا يجارون في تمحيص الحقائق والبحث عنها بكلّ دقّة واعتدال.
وقد علم البرّ والفاجر حكم الكذب عند هؤلاء الأبرار، والاُلوف من مؤلَّفاتهم المنتشرة تلعن الكاذبين، وتعلن أنّ الكذب في الحديث من الموبقات الموجبة لدخول النار، ولهم في تعمّد الكذب في الحديث حكم قد امتازوا به، حيث جعلوه من مفطّرات الصائم، وأوجبوا القضاء والكفّارة على مرتكبه في شهر رمضان، كما أوجبوهما بتعمّد سائر المفطّرات، وفقههم وحديثهم صريحان بذلك، فكيف يتّهمون ـ بعد هذا ـ في حديثهم وهم الأبرار الأخيار قوّامون اللّيل صوّامون النهار؟ وبماذا كان الأبرار من شيعة آل محمّد وأولياؤهم متّهمين، ودعاة الخوارج والمرجئة والقدريّة غير متّهمين، لولا التحامل الصريح أو الجهل القبيح؟ نعوذ بالله من الخذلان، وبه نستجير من سوء عواقب الظلم والعدوان».
ثمّ ذكر السيّد أسماء مائة من رجال الشيعة الواردين في أسناد الصّحاح الستّة…(11)
أقول :
إنّ من النقاط الجديرة بالذكر في تراجم العلماء الشيعة والسنّة في كتب التاريخ والرجال لأهل السنّة:
أوّلاً: إنّهم يترجمون للرجل من أهل السنّة وإن كان خاملاً، وأمّا إن كان من علماء الشيعة فيحاولون التناسي عنه وإنْ كان كبيراً فيهم، ولذا ترى تراجم علماء الإماميّة في كتب القوم الرجاليّة والتاريخيّة قليلة جدّاً.
وثانياً: إنّه إن كان من أهل السنّة يتعرّضون لجميع جوانب حياته، فيذكرون مشايخه وتلامذته ومؤلّفاته ومناقبه وما قيل فيه وحتّى أسفاره… أمّا العالم الإمامي فيختصرون الكلام بترجمته جدّاً، وربّما لا يترجمون لشخصيّة من أكابرهم المشهورين إلاّ بأسطر أو سطرين!
وثالثاً: ـ وهي المهمّة هنا ـ أنّك ترى بتراجم علمائهم إرتكاب الكبائر والموبقات الموجبة لدخول النار، ولا تجد شيئاً من ذلك بتراجم علماء الإماميّة، ولو كان أحدهم متّهماً ـ ولو من قِبَل الخصوم ـ بموبقة، لذكروا بل وهرّجوا…!
وسنورد نماذج من تراجم علماء الإماميّة، ونماذج من الموبقات المذكورة بتراجم علماء السنّة.
(1) تدريب الراوي 2:65 .
(2) انظر كتاب : وسائل الشيعة ، في مختلف الأبواب منه .
(3) رجال النجاشي : 6/2 .
(4) وسائل الشيعة 27:323/33844 .
(5) مستدرك الوسائل 17 : 285/21359 .
(6) مستدرك الوسائل : 17:292 ـ 293/21383 .
(7) وسائل الشيعة 28:323/33845 .
(8) تاريخ الكوفة : 408 .
(9) رجال النجاشي : 39 ـ 40/80 .
(10) ميزان الاعتدال 1/5 .
(11) المراجعات : 102 ـ 103 بتلخيص .