من تراجم علماء السنّة في كتبهم
وعلى الجملة، فإنّهم إمّا يهملون علماء الإماميّة فلا يترجمون لهم أصلاً، وإلاّ ترجموا بسطرين أو أسطر قليلة، مع أغلاط وهفوات كثيرة… لكنْ لا تجد في
هذه التراجم نسبة شيء من الآثام والقبائح الموبقة، ولو كان ـ ولو نسبةً كاذبةً ـ لذكروا، كما يذكرون بتراجم علمائهم…
فهذا الذهبي الذي نقلنا عن كتابه (سير أعلام النبلاء) تراجم جملة من علمائنا… قد ذكر فيه بتراجم علماء السنّة أشياء قبيحة مخجلة، نورد بعضها في هذا المجال:
فقد ذكر بترجمة زاهر بن طاهر بعد أنْ وصفه بـ«الشيخ العالم، المحدّث المفيد، المعمّر، مسند خراسان، أبوالقاسم ابن الإمام أبي عبدالرحمن، النيسابوري، الشحامي، المستملي، الشروطي، الشاهد»!! وعدّد مشايخه وتصانيفه… ذكر عن جماعة أنّه كان يخلُّ بالصّلوات إخلالاً ظاهراً…(1)
وذكر بترجمة عمر بن محمّد، المعروف بابن طبرزد، وقد وصفه بـ«الشيخ المسند الكبير الرحلة، أبو حفص عمر بن محمّد بن معمّر بن…» وعدّد شيوخه ومن روى عنه من المشاهير كابن النجّار والكمال ابن العديم والمجد ابن عساكر والقطب ابن عصرون وأمثالهم، ثمّ أورد قول ابن نقطة: «ثقة في الحديث»، وقول ابن الحاجب: «كان مسند أهل زمانه»، حتّى نقل عن ابن النجّار: «كان متهاوناً باُمور الدين، رأيته غير مرّة يبول من قيام، فإذا فرغ من الإراقة أرسل ثوبه وقعد من غير استنجاء بماء ولا حجر» قال الذهبي: «قلت: لعلّه يرخّص بمذهب من لا يوجب الإستنجاء!».
ثمّ حكى عن ابن النجّار: «وكنّا نسمع منه يوماً أجمع، فنصلّي ولا يصلّي معنا، ولا يقوم لصلاة…».
قال الذهبي: «وقد سمعت أبا العبّاس ابن الظاهري يقول: كان ابن طبرزد لايصلّي»(2).
ثمّ إنّ الذهبي روى خبرين بترجمة مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي القصّاب في سند أحدهما «زاهر» وفي الآخر «عمر» فقال: «في الإسنادين ضعف، من جهة زاهر وعمر، لإخلالهما بالصّلاة، فلو كان فيَّ ورع لَما رويتُ لمن هذا نعته»(3).
لكنْ في مشايخ الذهبي غير واحد من هؤلاء، فقد نصَّ ـ مثلاً ـ بترجمة علي بن مظفّر الإسكندراني، شيخ دار الحديث النفيسيّة!! المتوفّى سنة 716: «لم يكن عليه ضوء في دينه، وحملني الشّره على السماع من مثله، والله يسامحه، كان يخلُّ بالصّلوات، ويُرمى بعظائم!!»(4).
وذكر بترجمة الشيخ المعمّر أبي المعالي عثمان بن علي بن المعمّر بن أبي عِمامة البغدادي البقّال: «قال ابن النجّار: كان عسراً، غير مرضي السيرة، يخلُّ بالصّلوات، ويرتكب المحظورات»(5).
وبترجمة الجعابي الموصوف بـ«الحافظ البارع العلاّمة، قاضي الموصل، أبوبكر محمّد بن عمر بن محمّد بن سلم التميمي البغدادي» قال بعد ذكر مشايخه، وأنّه حدّث عنه: أبوالحسن الدارقطني وأبو حفص ابن شاهين وابن رزقويه وابن مندة والحاكم… وبعد ذكر بعض الكلمات في الثناء عليه… قال:
«ونقل الخطيب عن أشياخه أنّ ابن الجعابي كان يشرب في مجلس ابن العميد. وقال أبو عبدالرحمن السلمي: سألت الدارقطني عن ابن الجعابي، فقال: خلّط، وذكر مذهبه في التشيّع، وكذا نقل أبو عبدالله الحاكم عن الدارقطني قال: وحدّثني ثقة أنّه خلّى ابن الجعابي نائماً وكتب على رجله، قال: فكنت أراه ثلاثة أيّام لم يمسّه الماء…»..
«قال الحاكم: قلت للدّارقطني: يبلغني عن ابن الجعابي أنّه تغيَّر عمّا عهدناه. قال: وأيّ تغيّر!! قلت: بالله هل اتّهمته؟! قال: إي والله. ثمّ ذكر أشياء. فقلت:وضح لك أنّه خلط في الحديث؟! قال: إي والله، قلت: هل اتّهمته حتّى خفت المذهب؟! قال: ترك الصّلاة والدّين»(6).
أقول :
لكنّ بقاء الكتابة على رجله ثلاثة أيّام، إنّما يدلّ على عدم غسله لرجليه في الوضوء، ولا يدلّ على عدم الوضوء وترك الصلاة، فلعلّه كان من القائلين بالمسح في الوضوء، تعييناً أو تخييراً، فإنّ هذا مذهب كثير من الصحابة والتابعين والفقهاء الكبار، كابن جرير الطبري ـ صاحب التفسير والتاريخ ـ وأتباعه…(7)
* وأمّا شرب المسكر، فمذكور بتراجم كثير من أعلام القوم:
ففي ترجمة نصرك وهو: «الحافظ، المجوّد، الماهر، الرحّال، أبو محمّد، نصر بن أحمد بن نصر، الكندي البغدادي»: «قال أبوالفضل السليماني: يقال إنّه كان أحفظ من صالح بن محمّد جزرة، إلاّ أنّه كان يتّهم بشرب المسكر»(8).
وبترجمة علي بن سراج وهو: «الإمام الحافظ البارع، أبوالحسن ابن أبي الأزهر»: «إلاّ أنّ الدارقطني قال: كان يشرب ويسكر»(9).
وبترجمة الذهبي وهو: «الحافظ العالم الجوّال، أبوبكر أحمد بن محمّد ابن حسن بن أبي حمزة البلخي ثمّ النيسابوري» فذكر مشايخه ومن حدّث عنه وهم أكابر المحدّثين الحفّاظ ثمّ قال: «لكنّه مطعون فيه. قال الإسماعيلي: كان مستهتراً بالشرب»(10).
وبترجمة عبدالله بن محمّد بن الشرقي: «ذكر الحاكم أنّه رآه… قال: ولم يدَعِ الشرب إلى أن مات، فنقموا عليه ذلك، وكان أخوه لا يرى لهم السّماع منه لذلك»(11).
وبترجمة أبي عبيد الهروي: «قال ابن خلّكان… قيل: إنّه كان يحبّ البِذلة، ويتناول في الخلوة، ويعاشر أهل الأدب في مجالس اللذّة والطرب»(12).
وبترجمة الزوزني، وهو: «الشيخ المسند الكبير، أبو سعد أحمد بن محمّد… من مشاهير الصوفيّة»!! حدّث عنه: ابن عساكر والسمعاني وابن الجوزي وآخرون، «قال السمعاني: كان منهمكاً في الشرب، سامحه الله… وقال ابن الجوزي: ينسبونه إلى التسمّح في دينه»(13).
أقول :
ومثل هذه القضايا في تراجمهم كثير، وهم حفّاظ، أئمّة، يقتدون بهم…
وقد جاء بترجمة «الإمام!! القدوة!! العابد!! الواعظ!! محمّد بن يحيى الزبيدي، نزيل بغداد» عن السمعاني: «سمعت جماعةً يحكون عنه أشياء، السكوت عنها أَوْلى. وقيل: كان يذهب إلى مذهب السالميّة، ويقول:… إنّ الشارب والزاني لا يلام، لأنّه يفعل بقضاء الله وقدره»(14).
فهذا مذهب القوم، وهذه أعمالهم…
وجاء بترجمة «الشيخ المعمَّر المحدّث!!» أحمد بن الفرج الحجازي من مشايخ: النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهم من الأئمّة، عن محمّد بن عوف: «هو كذّاب!! رأيته في سوق الرستن وهو يشرب مع مُردان وهو يتقيّأ!! وأنا مشرفٌ عليه من كوّة بيت كانت لي فيه تجارة سنة 219…»(15). فاجتمع عنده: الشرب!! والكذب! والعبث بالمردان!!
* وكان العبث بالمردان من أفعال غير واحد من أعلام القوم، فقد جاء بترجمة قاضي القضاة!! يحيى بن أكثم: «قال فضلك الرازي: مضيت أنا وداود الأصبهاني إلى يحيى بن أكثم، ومعنا عشرة مسائل، فأجاب في خمسة منها أحسن جواب، ودخل غلام مليح، فلمّا رآه اضطرب، فلم يقدر يجيء ولا يذهب في
مسألة. فقال داود: قم، اختلط الرجل»(16).
وبترجمة الخطيب البغدادي الذي أطنب وأسهب الذهبي ترجمته بعد أن وصفه بـ«الإمام الأوحد، العلاّمة المفتي، الحافظ الناقد، محدّث الوقت… خاتمة الحفّاظ» ونحو ذلك من الألقاب، وبعد أن أورد كلمات الأئمّة في مدحه، قال:
«كان سبب خروج الخطيب من دمشق إلى صور أنّه كان يختلف إليه صبي مليح، فتكلّم الناس في ذلك»(17).
وبترجمة ابن الأنماطي وهو: «الشيخ العالم الحافظ، المجوّد، البارع، مفيد الشام، تقي الدين أبوالطاهر إسماعيل بن عبدالله» عن ابن الحاجب: «وكان يُنبَز بالشرّ، سألت الحافظ الضياء عنه فقال: حافظ ثقة مفيد إلاّ أنّه كثير الدعابة مع المُرد»(18).
وجاء بترجمة الحافظ أبي بكر أحمد بن إسحاق الصِبغي: «قال الحاكم: وسمعت أبابكر ابن إسحاق يقول: خرجنا من مجلس إبراهيم الحربي ومعنا رجل كثير المجون، فرأى أمرد، فتقدّم فقال: السلام عليك، وصافحه وقبَّل عينيه وخدّه، ثمّ قال: حدّثنا الدَبَري بصنعاء بإسناده، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا أحبّ أحدكم أخاه فليعلمه. فقلت له: ألا تستحي؟! تلوط وتكذب في الحديث!! يعني: أنّه ركّب إسناداً للمتن»(19).
هذا، ولا اُريد أنْ اُطيل في هذا المقام، وفي كتابنا «الإنتقاء من سير أعلام النبلاء» من هذا القبيل كثير عن الصحابة والتابعين وكبار الرجال… وبعضه عجيبٌ وغريبٌ!
كانت تلك دراسة مقارنة موجزة عن أهمّ العلوم ـ وهي العقائد والفقه والتفسير والحديث ـ عند الشيعة الإماميّة، ولمحة عن تراجم علماء هذه الطائفة في العلوم المذكورة… وموقف الرّجاليين من أهل السنّة منهم، ولمحة عن تراجم علماء السنّة، حسبما ذكروا بتراجمهم في أشهر كتبهم…
وقد تبيّن أنّ الإهمال، أو الاختصار في الترجمة مع الطعن في المذهب، من جملة أساليب الخصوم في المحاربة مع هذا المذهب وأعلامه. ولكنّهم ـ مع ذلك ـ لم يُتّهموا بموبقة من الموبقات.
على خلاف ما جاء بأحوال علماء المخالفين.
فلينظر العاقل المتدبّر أنّ الإماميّة عمّن يأخذون، وأنّ غيرهم لمن يتّبعون!
* * *
(1) سير أعلام النبلاء 20/9 .
(2) سير أعلام النبلاء 21/507 .
(3) سير أعلام النبلاء 10/317 .
(4) معجم الشيوخ 2/58 .
(5) سير أعلام النبلاء 19/453 .
(6) سير أعلام النبلاء 16/88 .
(7) قد بحثنا ذلك في رسالتنا : (حكم الأرجل في الوضوء) .. وهو من البحوث المنشورة عن مؤتمر ألفيّة الشيخ المفيد رحمه الله في قم المقدّسة سنة 1413 .
(8) سير أعلام النبلاء 13/538 .
(9) سير أعلام النبلاء 14/284 .
(10) سير أعلام النبلاء 14/461 .
(11) سير أعلام النبلاء 15/40 .
(12) سير أعلام النبلاء 17/147 .
(13) سير أعلام النبلاء 20/57 .
(14) سير أعلام النبلاء 20/318 .
(15) سير أعلام النبلاء 12/585 .
(16) سير أعلام النبلاء 12/10 .
(17) سير أعلام النبلاء 18/281 .
(18) سير أعلام النبلاء 22/174 .
(19) سير أعلام النبلاء 15/487 .