كلمات ابن تيميّة في المسألة
ومن جملة من حطّ على مذهب الأشاعرة، وردّ عليه بشدّة، هو: ابن تيميّة الحرّاني، إذ قال في جواب العلاّمة الحلّي رحمه الله:
«جمهور أهل السنّة المثبتة للقدر من جميع الطوائف يقولون: إنّ العبد فاعل حقيقة، وإنّ له قدرة حقيقة واستطاعة حقيقة، وهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعيّة، بل يقرّون بما دلّ عليه العقل، من أنّ الله تعالى يخلق السحاب بالرياح وينزل الماء من السحاب، وينبت النبات بالماء، ولا يقولون أنّ قوى الطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها، بل يقرّون أنّ لها تأثيراً لفظاً ومعنى، حتّى جاء لفظ الأثر في مثل قوله تعالى: ( ونكتب ما قدّموا وآثارهم )، وإن كان التأثير أعمّ منه في الآية، لكن يقولون هذا التأثير هو تأثير الأسباب في مسبّباتها، والله تعالى خالق السبب والمسبّب، ومع أنّه خالق السبب فلابدّ له من سبب آخر يشاركه، ولابدّ له من معارض يمانعه، فلا يتمّ أثره إلاّ مع خلق الله له لا به، بأن يخلق الله تعالى السبب الآخر ويزيل الموانع.
ولكن هذا القول الذي حكاه هو قول بعض المثبتة للقدر، كالأشعري ومن وافقه من الفقهاء، من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، حيث لا يثبتون في المخلوقات قوى الطبائع، ويقولون إنّ الله تعالى فعل عندها لا بها، ويقولون إنّ قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل، وأبلغ من ذلك قول الأشعري: إنّ الله فاعل فعل العبد، وإنّ عمل العبد ليس فعلاً للعبد بل كسباً له، وإنّما هو فعل الله تعالى فقط، وجمهور الناس من أهل السنّة من جميع الطوائف على خلاف ذلك، وأنّ العبد فاعل لفعله حقيقة، والله أعلم»(1).
«وأمّا قوله: وإنّ الله تعالى يريد المعاصي من الكافر ولا يريد منه الطاعة. فهذا قول طائفة منهم، وهم الذين يوافقون القدريّة، فيجعلون المشيّة والإرادة والمحبّة والرضا نوعاً واحداً، ويجعلون المحبّة والرضا والغضب بمعنى الإرادة، كما يقول ذلك الأشعري في المشهور عنه وأكثر أصحابه، وطائفة ممّن يوافقهم من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد.
وأمّا جمهور أهل السنّة من جميع الطوائف وكثير من أصحاب الأشعري، فيفرّقون بين الإرادة والمحبّة والرضا، فيقولون إنّه وإن كان يريد المعاصي فهو سبحانه لا يحبّها ولا يرضاها بل يبغضها ويسخطها وينهى عنها، وهؤلاء يفرّقون بين مشيّة الله تعالى وبين محبّته، وهذا قول السلف قاطبة، وقد ذكر أبوالمعالي الجويني أنّ هذا قول القدماء من أهل السنّة، وأنّ الأشعري خالفهم، فجعل الإرادة هي المحبّة فيقولون ، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فكلّما شاءه فقد خلقه»(2).
وإذا كان الله ـ والعياذ بالله ـ يرضى بأنواع المعاصي وأقسام الظلم والضلال، فلا ريب في نسبة الظلم إليه سبحانه وتعالى…
وفي (منهاج السنّة) أيضاً:
«والقول الثاني: إنّ الظلم مقدور والله تعالى منزّه عنه، وهذا قول الجمهور من المثبتين للقدر ونفاته، وهو قول كثير من النظّار المثبتة للقدر، كالكراميّة وغيرهم، وكثير من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وهو قول القاضي أبي حازم ابن القاضي أبي يعلى وغيره، وهذا كتعذيب الإنسان بذنب غيره، كما قال الله تعالى ( فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً )، وهؤلاء يقولون: الفرق بين تعذيب الإنسان على فعله الإختياري وغير فعله الإختياري مستقر في فطر العقول، فإنّ الإنسان لو كان له في جسمه برص أو عيب خلق فيه، لم يستحسن ذمّه ولا عقابه على ذلك، ولو ظلم ابنه أحد يحسن عقابه على ذلك، ويقولون: الإحتجاج بالقدر على الذنوب ممّا يعلم بطلانه بضرورة العقل، فإنّ الظالم لغيره لو احتج بالقدر لاحتجّ ظالمه أيضاً بالقدر، فإن كان القدر حجّة لهذا فهو حجّة لهذا وإلاّ فلا، والأوّلون أيضاً يمنعون الإحتجاج بالقدر، فإنّ الإحتجاج به باطل باتّفاق أهل الملل وذوي العقول، وإنّما يحتجّ به على القبائح والمظالم من هو متناقض القول متّبع لهواه كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري…. مذهب وافق هؤلاء تمذهبت به، ولو كان القدر حجّة لفاعل الفواحش والمظالم لم يحسن أن يلوم أحدٌ أحداً، ولا يعاقب أحدٌ أحداً، وكان للإنسان أن يفعل في دم غيره وماله وأهله ما يشتهيه من المظالم والقبائح، ويحتجّ بأنّ ذلك مقدّرٌ عليه»(3).
وقال ابن تيمية:
«بقي الخلاف بين القدريّة الذين يقولون أنّ الداعي يحصل في قلب العبد بلا مشيّة من الله ولا قدرة، وبين الجهميّة المجبّرة الذين يقولون: إنّ الداعي قدرة العبد ولا تأثير لها في فعله بوجه من الوجوه، وإنّ العبد ليس فاعلاً لفعله، كما يقول ذلك جهم بن صفوان إمام المجبّرة ومن اتّبعه، وإن أثبت أحدهم كسباً لا يعقل كما أثبته الأشعري ومن وافقه، وإذا كان هذا النزاع في هذا الأصل بين القدريّة النفاة لكون الله يعين المؤمنين على الطاعة، ويجعل فيهم داعياً إليها ويخصّهم بذلك دون الكافر، وبين المجبّرة الغلاة الذين يقولون إنّ العباد لا يفعلون شيئاً ولا قدرة لهم على شيء، أو لهم قدرة لا يفعلون بها شيئاً ولا تأثير لها في شيء، فكلا القولين باطل».
ثمّ قال بعد كلام له:
«وهذا حقيقة مذهب أهل السنّة الذين يقولون: إنّ الله خالق الأشياء بالأسباب والله خلق العبد وقدرة يكون بها فعله، فإنّ العبد فاعل لفعله حقيقة، فقولهم في خلق فعل العبد بإرادة وقدرة كقولهم في خلق سائر الحوادث بأسبابها، ولكن ليس هذا قول من ينكر الأسباب والقوى التي في الأجسام وينكر تأثير القدرة التي بها يكون الفعل ويقول: إنّه لا أثر لقدرة العبد أصلاً في فعله، كما يقول ذلك من يقول بقول جهم وأتباعه والأشعري ومن وافقه، وليس قول هؤلاء قول أئمة السنّة ولا جمهورهم، بل أصل هذا القول هو قول جهم بن صفوان، فإنّه كان يثبت مشيّة الله تعالى وينكر أن يكون له حكمة أو رحمة، وينكر أن يكون للعبد فعل أو قدرة مؤثّرة، وحكي عنه أنّه كان يخرج إلى الجذماء ويقول: أرحم الراحمين يفعل هذا؟ إنكاراً لأن تكون له رحمة يتّصف بها، وزعماً منه أنّه ليس إلاّ مشيّة محضة لا اختصاص لها بحكمة، بل يرجّح أحد المتماثلين بلا مرجّح، وهذا قول طائفة من المتأخّرين، وهؤلاء يقولون أنّه لم يخلق لحكمة ولم يأمر لحكمة، وأنّه ليس في القرآن لام كي لا في خلق الله ولا في أمره، وهؤلاء الجهميّة المجبّرة هم والمعتزلة والقدريّة في طرفين متقابلين، وقول سلف الاُمّة وأئمة السنّة وجمهورها ليس قول هؤلاء، وإن كان كثير من المثبتين للقدر يقول بقول جهم»(4).
وقال:
«ومن وافق جهم بن صفوان من المثبتين للقدر على أنّ الله لا يفعل شيئاً لحكمة ولا لسبب، وأنّه لا فرق بالنسبة إلى الله بين المأمور والمحظور، ولا يحب بعض الأفعال ولا يبغض بعضها، فقوله فاسد، مخالف للكتاب والسنّة واتّفاق السلف، وهؤلاء قد يعجزون عن بيان امتناع كثير من النقائص عليه، لاسيّما إذا قال من قال منهم أنّ تنزيهه عن النقص لم يعلم بالعقل بل بالسمع، فإذا قيل لهم: لم قلتم إنّ الكذب ممتنع عليه؟ قالوا: لأنّه نقص والنقص عليه محال، فيقال لهم: عندكم أنّ تنزيهه عن النقص لم يعلم إلاّ بالإجماع، ومعلوم أنّ الإجماع منعقد على تنزيهه عن الكذب، فإن صحّ الإحتجاج على هذا بالإجماع، فلا حاجة إلى هذا التطويل.
وأيضاً: فالكلام إنّما هو في العبارة الدالّة على هذا المعنى، وهذا كما قاله بعضهم: إنّه لا يجوز أن يتكلّم بكلام ولا يعني به شيئاً وقال خلافاً للحشويّة، ومعلوم أنّ هذا القول لم يقله أحد من المسلمين، وإنّما النزاع في أنّه هل يجوز أن ينزّل كلاماً لا يعلم العباد معناه، لا أنّه هو في نفسه لا يعني به شيئاً، ثمّ بتقدير أن يكون في هذا نزاع، فإنّه احتجّ على ذلك بأنّه عيب والعيب على الله ممتنع، وهذا المحتجّ يجوّز على الله فعل كلّ شيء، لا ينزّهه عن فعل هذا. وأمثاله من تناقض الموافقين لقول الجهميّة الجبريّة في القدر كثير، لكن ليس هذا قول أئمة السنّة ولا جمهورهم».
وذكر ابن تيمية في الجواب عن لزوم عدم الرضا بقضاء الله ـ بناءً على قول أهل السنّة ـ ثلاثة وجوه، ثمّ قال:
«وقد أجاب بعضهم بجواب آخر وهو: إنّا لا نرضى بالقضاء لا بالمقضي، وقد أجاب بعضهم بجواب آخر: إنّا نرضى بها من جهة كونها خلقاً، ونسخطها من جهة كونها كسباً، وهذا يرجع إلى الجواب الثالث، لكن في إثبات الكسب إذا لم يجعل العبد فاعلاً فيه كلام قد ذكر في غير هذا الموضع، فالذين جعلوا العبد كاسباً غير فاعل ـ من أتباع جهم بن صفوان وحسين النجار كأبي الحسن وغيره ـ كلامهم متناقض، ولهذا لم يمكنهم أن يذكروا في بيان هذاالكسب والفرق بينه وبين الفعل كلاماً معقولاً، بل تارة يقولون: هو المقدور بالقدرة الحادثة، وتارة يقولون: ما قام بمحلّ القدرة أو بمحلّ القدرة الحادثة، وإذا قيل لهم: ما القدرة الحادثة؟ قالوا: ما قامت بمحلّ الكسب ونحو ذلك من العبارات التي تستلزم الدور، ثمّ يقولون: معلوم بالإضطرار الفرق بين حركة المختار وحركة المرتعش، وهذا كلام صحيح، لكنّه حجّة عليهم لا لهم»(5).
وقال بعد كلام له:
«والمقصود هنا التنبيه على أصل القدريّة، فإنّ حقيقة قولهم أنّ أفعال الحيوان تحدث بلا فاعل، كما أن أصل قول الدهريّة الفلاسفة أنّ حركة الفلك وجميع الحوادث تحدث بلا سبب محدث، وكذلك قول من وافق القدريّة من أهل الإثبات على أنّ الربّ تعالى لا يقوم به الأفعال وقال: إنّ الفعل هو المفعول والخلق هو المخلوق كما يقول الأشعري ومن وافقه، فإنّه يلزمه في فعل الذم ما لزم القدريّة، ولهذا عامّة شناعات هذا القدري الرافضي على هؤلاء، وهؤلاء طائفة من المثبتين لخلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقد وافقهم في ذلك كثير من الشيعة الزيديّة والإماميّة وغيرهم، وقولهم ـ على كلّ حال ـ أقلّ من قول القدريّة، بل أصل خطئهم موافقتهم للقدريّة في بعض خطئهم، وأئمة السنّة لا يقولون بشيء من هذا الخطأ.
ولذلك، جماهير أهل السنّة من أهل الحديث والفقه والتفسير والتصوّف لايقولون بهذه الأقوال المتضمّنة الخطأ»(6).
وقال في الجواب عن لزوم عدم الفرق بين الأفعال الإختيارية والإضطرارية بناءً على مذهبهم:
«والجواب: إنّ هذا إنّما يلزم من يقول أنّ العبد لا قدرة له على أفعاله الإختياريّة، وليس هذا قول إمام معروف ولا طائفة معروفة من الطوائف من أهل السنّة، بل ولا من طوائف المثبتين للقدر، إلاّ ما يحكى عن جهم بن صفوان وغلاة المثبتة أنّهم سلبوا العبد قدرته، قال: إنّ حركته كحركة الأشجار بالرياح، إن صحّ النقل عنهم.
وأشدّ الطوائف قرباً من هؤلاء هو الأشعري ومن وافقه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وهو مع هذا يثبت للعبد قدرة محدثة واختياراً ويقول: إنّ الفعل كسب للعبد لكنّه يقول: لا تأثير لقدرة العبد في إيجاد المقدور، فلهذا قال من قال: إنّ هذا الكسب الذي أثبته الأشعري غير معقول.
وجمهور أهل الإثبات على أنّ العبد فاعل لفعله حقيقة ، وله قدرة واختيار، وقدرته مؤثّرة في مقدورها، كما تؤثّر القوى والطبائع وغير ذلك من الشروط والأسباب، فما ذكره لا يلزم جمهور أهل السنّة.
وقد قلنا غير مرّة: نحن لا ننكر أن يكون في بعض أهل السنّة من يقول الخطأ، لكن لا يتّفقون على خطأ»(7).
وقال ابن تيميّة ـ بعد ذكر آيات عديدة في ثبوت القدرة والإرادة للعبد:
«وقد أخبر أنّ العباد يفعلون ويصنعون ويعملون، ويؤمنون ويكفرون، ويتّقون ويفسقون، ويصدّقون ويكذبون، ونحو ذلك في مواضع، وأخبر أنّ لهم استطاعة وقوّة في غير موضع، وأئمة أهل السنّة وجمهورهم يقولون: إنّ الله خالق هذا كلّه، والخلق عندهم ليس هو المخلوق، فيفرّقون بين كون أفعال العباد مخلوقة مفعولة للرب، وبين أن يكون نفس فعله الذي هو مصدر فعل يفعل فعلاً فإنّها فعل للعباد بمعنى المصدر، وليست فعلاً للربّ تعالى بهذا الاعتبار، بل هي مفعولة له، والرب تعالى لا يتّصف بمفعولاته.
ولكن هذه الشناعات لزمت من لا يفرّق بين فعل الربّ ومفعوله ويقول مع ذلك أنّ أفعال العباد فعل الله، كما يقول ذلك جهم بن صفوان وموافقوه والأشعري وأتباعه ومن وافقهم من أتباع الأئمة، ولهذا ضاق بهؤلاء البحث في هذا الموضع، كما قد بسط في موضعه.
وكذلك أيضاً لزمت من لا يثبت في المخلوقات أسباباً وقوىً وطبائع ويقولون: إنّ الله يفعل عندها لا بها، فيلزم أن لا يكون فرق بين القادر والعاجز.
وإن أثبت قدرة ويقول: إنّها مقترنة بالكسب. قيل له: لم تثبت فرقاً معقولاً بين ما تثبته من الكسب ونفيت من الفعل، ولا بين القادر والعاجز إذا كان مجرّد الإقتران لا اختصاص له بالقدرة، فإنّ فعل العبد يقارن جهله وعلمه وإرادته وغير ذلك من صفاته، فإذا لم يكن للقدرة تأثير إلاّ مجرّد الإقتران، فلا فرق بين القدرة وغيرها.
وكذلك قول من قال: القدرة مؤثّرة في صفة الفعل لا في أصله، كما يقول القاضي أبوبكر ومن وافقه، فإنّه إذا ثبت تأثير بدون خلق الربّ، لزم أن يكون بعض الحوادث لم يخلقه الله، وإن جعل ذلك معلّقاً بخلق الربّ فلا فرق بين الأصل والصّفة.
وأمّا أئمة السنّة وجمهورهم فيقولون ما دلّ عليه الشرع والعقل…»(8).
(1) منهاج السنة 1 : 382 ـ 383 .
(2) منهاج السنة 1 : 383 ـ 384 .
(3) منهاج السنة 1 : 387 .
(4) منهاج السنة 1 : 391 .
(5) منهاج السنة 2 : 59 ـ 60 .
(6) منهاج السنة 2 : 31 .
(7) منهاج السنة 2 : 24 .
(8) منهاج السنة 2 : 25 .