كلام الشيخ المجلسي وسائر علمائنا الأعلام
قال العلامة الشيخ محمّدباقر المجلسي صاحب (بحارالأنوار) بعد رواية نبذة من أحاديث البداء وأقوال العلماء فيه:
«ولنذكر ما ظهر لنا من الآيات والأخبار بحيث تدلّ عليه النصوص الصريحة ولا تأبى عنه العقول الصحيحة فنقول وبالله التوفيق:
إنّهم عليهم السلام إنّما بالغوا في البداء ردّاً على اليهود الذين يقولون: إنّ الله قد فرغ من الأمر والنظام، وبعض المعتزلة الذين يقولون: إنّ الله خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن، معادن ونباتاً وحيواناً وإنساناً، ولم يتقدّم خلق آدم على خلق أولاده، والتقدّم إنّما يقع في ظهورها لا في حدوثها ووجودها، وإنّما أخذوا هذه المقالة من أصحاب الكمون والظهور من الفلاسفة، وعن بعض الفلاسفة القائلين بالعقول والنفوس الفلكية، وبأنّ الله تعالى لم يؤثر حقيقة إلاّ في العقل الأوّل، فهم يعزلونه تعالى عن ملكه وينسبون الحوادث إلى هؤلاء.
فنفوا عليهم السلام ذلك، وأثبتوا أنّه تعالى كلّ يوم في شأن، من إعدام شيء وإحداث آخر، وإماتة شخص وإحياء آخر إلى غير ذلك، لئلاّ يترك العباد التضرّع إلى الله ومسألته وطاعته والتقرّب إليه بما يصلح اُمور دنياهم وعقباهم، وليرجوا عند التصدّق على الفقراء وصلة الأرحام وبرّ الوالدين والمعروف والإحسان ما وُعِدوا عليها، من طول العمر وزيادة الرزق وغير ذلك.
ثمّ اعلم: أنّ الآيات والأخبار تدلّ على أنّ الله تعالى خلق لوحين أثبت فيهما ما يحدث من الكائنات:
أحدهما: اللّوح المحفوظ الذي لا تغيّر فيه أصلاً، وهو مطابق لعلمه تعالى.
والآخر: لوح المحو والإثبات، فيثبت فيه شيئاً ثمّ يمحوه، لحكم كثيرة لا تخفى على اُولي الألباب، مثلاً يكتب إنّ عمر زيد خمسون سنة، ومعناه: أنّ مقتضى الحكمة أن يكون عمره كذا إذا لم يفعل ما يقتضي طوله أو قصره، فإذا وصل الرحم مثلاً يمحى الخمسون ويكتب مكانه ستّون، وإذا قطعها يكتب مكانه أربعون، وفي اللّوح المحفوظ إنّه يصل عمره ستّون، كما أنّ الطبيب الحاذق إذا اطّلع على مزاج شخص يحكم بأنّ عمره بحسب هذا المزاج يكون ستّين سنةً، فإذا شرب سمّاً ومات أو قتله إنسان فنقص من ذلك أو استعمل دواءاً قوي مزاجه به فزاد عليه لم يخالف قول الطبيب، والتغيّر الواقع في هذا اللّوح مسمّى بالبداء; إمّا لأنّه شبيه به، كما في سائر ما يطلق عليه سبحانه من الإبتلاء والاستهزاء والسخرية وأمثالها، أو لأنّه يظهر للملائكة أو للخلق إذا اُخبروا بالأوّل خلاف ما علموا أوّلاً.
وأيّ استبعاد في تحقّق هذين اللّوحين؟ وأيّة استحالة في هذا المحو والإثبات حتّى يحتاج إلى التأويل والتكلّف، وإن لم يظهر الحكمة فيه لنا بعجز عقولنا عن الإحاطة بها؟ مع أنّ الحكم فيه ظاهرة:
منها: أن يظهر للملائكة الكاتبين في اللّوح والمطّلعين عليه لطفه تعالى بعباده، وإيصالهم في الدنيا إلى ما يستحقّونه فيزدادوا به معرفة.
ومنها: أن يعلم العباد ـ بإخبار الرسل والحجج عليهم السلام ـ أنّ لأعمالهم الحسنة مثل هذه التأثيرات في صلاح اُمورهم، ولأعمالهم السيّئة تأثيراً في فسادها، فيكون داعياً لهم إلى الخيرات، صارفاً لهم عن السيّئات. فظهر أنّ لهذا اللّوح تقدّماً على اللّوح المحفوظ، من جهة صيرورته سبباً لحصول بعض الأعمال، فبذلك ينقش في اللوح المحفوظ حصوله، فلا يتوهّم أنّه بعد ما كتب في هذا اللّوح حصوله لا فائدة في المحو والإثبات.
ومنها: إنّه إذا أخبر الأوصياء أحياناً من كتاب المحو والإثبات ثمّ أخبروا بخلافه، يلزمهم الإذعان به ويكون في ذلك تشديد للتكليف عليهم، تسبيباً لمزيد الأجر لهم، كما في سائر ما يبتلي الله عباده به من التكاليف الشاقّة وإيراد الاُمور التي يعجز أكثر العقول عن الإحاطة بها، وبها يمتاز المسلّمون الذين فازوا بدرجات اليقين عن الضعفاء الذين ليس لهم قدم راسخ في الدين.
ومنها: أن يكون هذه الأخبار تسلية لقوم من المؤمنين المنتظرين لفرج أولياء الله وغلبة الحقّ وأهله، كما روي في فرج أهل البيت عليهم السلام وغلبتهم، لأنّهم عليهم السلام لو كانوا أخبروا الشيعة ـ في أوّل ابتلاءهم باستيلاء المخالفين وشدّة محنتهم ـ أنّه ليس فرجهم إلاّ بعد ألف سنة أو ألفي سنة، ليئسوا ورجعوا عن الدين، ولكنّهم أخبروا شيعتهم بتعجيل الفرج، وربّما أخبروهم بأنّه يمكن أن يحصل الفرج في بعض الأزمنة القريبة، ليثبتوا على الدين ويثابوا بانتظار الفرج، كما مرّ في خبر أميرالمؤمنين صلوات الله عليه».
وقال ـ رحمه الله ـ بعد إيراد حديثين:
«فأخبارهم عليهم السلام بما يظهر خلافه ظاهراً، من قبيل المجملات والمتشابهات التي تصدر عنهم ثمّ يصدر بعد ذلك تفسيرها وبيانها، وقولهم يقع الأمر الفلاني في وقت كذا معناه إن كان كذا، أو إن لم يقع الأمر الفلاني الذي ينافيه، ولم يذكروا الشرط كما قالوا في النسخ قبل الفعل، وقد أوضحناه في باب ذبح إسماعيل عليه السلام.
فمعنى قولهم عليهم السلام: ما عبد الله بمثل البداء، إنّ الإيمان بالبداء من أعظم العبادات القلبيّة، لصعوبته ومعارضة الوساوس الشيطانيّة فيه، ولكونه إقراراً بأنّ له الخلق والأمر، وهذا كمال التوحيد، أو المعنى أنّه من أعظم الأسباب والدواعي إلى عبادة الربّ تعالى كما عرفت.
وكذا قولهم: ما عُظِّم الله بمثل البداء، يحتمل الوجهين، وإن كان الأوّل فيه أظهر.
وأمّا قول الصادق عليه السلام: لو علم النّاس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه.
فلما مرّ أيضاً، من أنّ أكثر مصالح العباد موقوفة على القول بالبداء، إذ لو اعتقدوا أنّ كلّ ما قُدِّرَ في الأزل فلابدّ من وقوعه حتماً، لَمَا دعوا الله في شيء من مطالبهم، وما تضرّعوا إليه وما استكانوا لديه، ولا خافوا منه ولا رجوا إليه، إلى غير ذلك ممّا قد أومأنا إليه.
وأمّا إنّ هذه الاُمور من جملة الأسباب المقدّر في الأزل أن يقع الأمر بها لا بدونها، فممّا لا يصل إليه عقول أكثر الخلق.
فظهر أنّ هذا اللوح وعلمهم بما يقع فيه من المحو والإثبات أصلح لهم من كلّ شيء»(1).
أقول :
ومثله في إثبات علم الله عزّوجلّ بالأشياء كلّها قبل كونها، وأنّه ليس معنى أخبار البداء ظهور الأمر له تعالى، كلمات غيره من أعلام الطائفة، بل صريح بعضهم أنْ أخذ «البداء» بمعنى العلم بعد الجهل كفر:
قال الشيخ الصدوق: «وعندنا: من زعم أنّ الله تعالى يبدو له اليوم في شيء لم يعلمه أمس، فهو كافر، والبراءة منه واجبة»(2).
وقال الشيخ المفيد: «وليس هو الانتقال من عزيمة إلى عزيمة، ولا من تعقّب الرأي، تعالى الله عمّا يقول المبطلون علوّاً كبيراً»(3).
وقال الشيخ الطوسي: «والوجه في هذه الأخبار: ما قدّمنا ذكره من تغيير المصلحة فيه، واقتضائها تأخير الأمر إلى وقت آخر على ما بيّناه، دون ظهور الأمر له تعالى، فإنّا لا نقول به ولا نجوّزه، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً».
بل قال: «فأمّا من قال بأنّ الله تعالى لا يعلم بشيء إلاّ بعد كونه، فقد كفر وخرج عن التوحيد»(4).
وكذلك كلام غير هؤلاء من علمائنا المتقدّمين والمتأخّرين.
(1) بحارالأنوار 4 : 129 ـ 133 .
(2) كتاب التوحيد : 135 باب العلم .
(3) تصحيح الاعتقاد : 200 .
(4) كتاب الغيبة : 430 ـ 431 .