قضيّة محمّد بن أبي بكر مع أبيه
وإنّ أوّل ما تعرّض له هذا الرجل واهتمّ به في مقام الطعن في كتاب سليم هو: قضيّة أنّ محمّد بن أبي بكر قد حضر أباه عند احتضاره وكلّمه ووَعَظَه… قال: وهذا من الإفتراءات العظيمة، لأنّ محمّداً ولد في حجّة الوداع، وكان في وقت موت أبيه ابن ثلاث سنين، فكيف يمكنه أن يعظ أباه؟
إلاّ أنّ الرجل قد أضاف ـ من عنده ـ إلى القضيّة أشياء، لا عين لها في كتاب سليم ولا أثر، ونحن ننبّه على إضافاته المكذوبة، ثمّ نتكلّم على أصل القضيّة:
1 ـ لقد زعم أنّ في كتاب سليم: أنَّ محمّداً ذكّر أباه الإعتقاد بالتوحيد والنبوّة وحقوق أهل البيت النبوي…
والحال أنّ الذي في كتاب سليم إنّما هو إلقاء كلمة التوحيد فقط، وهذه عبارته:
«فقلت له لمّا خلوت به: يا أبت قل لا إله إلاّ الله. قال: لا أقولها أبداً، ولا أقدر عليها حتّى أدخل التابوت»(1).
2 ـ لقد ذكر أنّ محمّداً تكلَّم عن إمامة أميرالمؤمنين وخصائصه، من العلم بما كان وما يكون، و تحدّثه مع الملائكة… وظاهر كلامه وجود هذا في كتاب سليم في خبر قضيّة محمّد مع أبيه، والحال أنّه لا عين لذلك فيه ولا أثر، كما لا يخفى على من أجال فيه النظر.
فإنْ أراد الإعتذار عن ذلك بأنّه قد نقله عن غير كتاب سليم، فلا يصغى إليه، لأنَّ الكلام في كتاب سليم…
3 ـ لقد ذكر أنّ محمّداً قد استدلَّ ببعض الآيات القرآنيّة، رفعاً لاستبعاد الناس أنّ الملائكة كانت تحدّث أميرالمؤمنين عليه السلام.
فإنْ كان غرضه وجود هذا في كتاب سليم، توجّه إليه السؤال: هل إنّ استدلاله كان في حال صغر سنّه وحين احتضار أبيه، أو في الأزمنة المتأخّرة؟ فإنْ أراد وقوع ذلك منه في الأزمنة المتأخرة، فأيّ ربط لذلك ببحثه عن حال كتاب سليم واشتماله على الإفتراءات؟ وإنْ أراد وقوع ذلك منه في حال صغره ووقت احتضار أبيه، فهذا كذب على سليم وكتابه.
يقول سليم في كتابه ما نصّه: «قلت: وهل تحدّث الملائكة إلاّ الأنبياء صلوات الله عليهم؟ قال ـ أي محمّد بن أبي بكر ـ أما تقرأ القرآن: ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ ولا محدّث ) قلت: أميرالمؤمنين محدَّث؟ قال: نعم، وكانت فاطمة محدَّثة ولم تكن نبيّةً، ومريم محدَّثة ولم تكن نبيّة، واُمّ موسى محدَّثة ولم تكن نبيّة، وسارة امرأة إبراهيم قد عاينت الملائكة فبشّروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، ولم تكن نبيّةً»(2).
هذا، ومن قرأ كتاب سليم علم أنّ لقائه مع محمّد بن أبي بكر إنّما كان بعد موت أبيه بزمن طويل، لأنّ لقائه كان بعد موت أبي عبيدة الجراح، المتوفى في السنة الثامنة عشرة كما في (الاستيعاب)(3)، بل كان بعد موت معاذ، وموته متأخر عن موت أبي عبيدة… فمحمّد عند هذه المكالمة ـ في أقل تقدير ـ ابن ثمان أو عشر سنين… وأيّ مانع من أنْ تصدر منه تلك الإستدلالات حينئذ؟
4 ـ لقد ادّعى الإجماع على ولادة محمّد بن أبي بكر في حجّة الوداع، وهذا منه جهلٌ أو تجاهل… قال الشيخ عبدالحق الدهلوي في كتاب (تحصيل الكمال في أسماء الرجال): «محمّد بن أبي بكر الصديق، هو أبوالقاسم محمّد ابن أبي بكر، ولد عام حجة الوداع بذي الحليفة أو بالشجرة، سنة ثمان»(4).
وذكر ابن الأثير في (جامع الاُصول) بترجمته أنّه ولد بالشجرة، أي عام ثمان(5).
وقال تقي الدين المكي بترجمته من (العقد الثمين في تاريخ بلد الله الأمين): «محمّد بن أبي بكر الصديق، واسمه عبدالله بن أبي قحافة عثمان بن عامر القرشي التيمي أبوالقاسم، ولد عام حجّة الوداع أو بالشجرة»(6).
وكذا في (تهذيب الكمال) و(الاستيعاب) وغيرهما، حيث ذكر القول بولادته في الشجرة، أي في السنة الثامنة من الهجرة.
5 ـ ومن العجب دعواه رواية الكليني في الكافي ولادته في حجّة الوداع.
إنّ للشيخ الكليني في الكافي روايتين في الباب، وهذه ألفاظهما:
أمّا الاُولى فهي: «علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد، عن حريز، عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: إنّ أسماء بنت عميس نفست بمحمّد بن أبي بكر، فأمرها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين أرادت الإحرام من ذي الحليفة أن تحتشي بالكرسف والخرق وتهلّي بالحج، فلمّا قدموا مكّة وقد نسكوا المناسك، وقد أتى لها ثمانية عشر يوماً، فأمرها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن تطوف بالبيت وتصلّي، ولم ينقطع عنها الدم. ففعلت ذلك»(7).
وأمّا الثانية فهكذا: «عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن عمر بن أبان الكلبي قال: ذكرت لأبي عبدالله عليه السلام المستحاضة، فذكر أسماء بنت عميس فقال: إنّ أسماء ولدت محمّد بن أبي بكر بالبيداء، وكان ولادتها البركة للنساء لمن ولدت منهنّ أو طمثت، فأمرها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فاستثفرت وتنطقت بمنطقة وأحرمت»(8).
فهل تجد في هذين الخبرين ذكراً لحجّة الوداع؟
6 ـ ولم يكتف بالإسناد إلى الكافي، بل أسند ذلك إلى الكشي أيضاً، والحال أنّه لا أثر من ذلك في رجال الكشي ، بل ليس بكلامه بترجمة محمّد ذكر من ولادته أصلاً، فضلاً عن كونها في حجّة الوداع… وهذه ألفاظها في الكتاب المذكور:
«محمّد بن أبي بكر: حدّثني محمّد بن قولويه والحسين بن الحسن بن بندار القميّان قالا: حدّثنا سعد بن عبدالله بن أبي خلف القمي قال: حدّثني الحسن بن موسى الخشّاب ومحمّد بن عيسى بن عبيد، عن علي بن أسباط، عن عبدالله بن سنان قال: سمعت أباعبدالله عليه السلام يقول:
كان مع أميرالمؤمنين عليه السلام خمسة نفر من قريش، وكانت ثلاثة عشر قبيلة مع معاوية; فأمّا الخمسة: محمّد بن أبي بكر رحمه الله، أتته النجابة من قبل اُمّه أسماء بنت عميس، وكان معه هاشم بن عتبة بن أبيوقاص المرقال، وكان معه جعدة بن هبيرة المخزومي، وكان أميرالمؤمنين عليه السلام خاله، وهُوَ الذي قال له عتبة بن أبي سفيان: إنّما لك هذه الشدّة في الحرب من قبل خالك، فقال له جعدة: لو كان خالك مثل خالي لنسيت أباك، ومحمّد ابن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة، والخامس سلف أميرالمؤمنين ابن أبي العاص بن ربيعة، وهو صهر النبي عليه السلام أبو الربيع.
حمدويه وإبراهيم ابنا نصير قالا: حدّثنا أيّوب، عن صفوان، عن معاوية ابن عمّار وغير واحد، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: كان عمّار بن ياسر ومحمّد بن أبي بكر لا يرضيان أن يعصى الله عزّ وجلّ.
محمّد بن مسعود قال: حدّثني علي بن محمّد القمي قال: حدّثني أحمد ابن محمّد بن عيسى، عن رجل، عن عمر بن عبدالعزيز، عن جميل بن دراج، عن حمزة بن محمّد الطيّار قال: ذكرنا محمّد بن أبي بكر عند أبي عبدالله عليه السلام فقال أبو عبدالله عليه السلام:
رحمه الله وصلّى عليه، قال لأميرالمؤمنين عليه السلام يوماً من الأيّام: اُبسط يدك اُبايعك. فقال: أوما فعلت؟ قال: بلى. فبسط يده، فقال: أشهد أنّك إمام مفترض الطاعة وأنّ أبي في النّار. فقال أبو عبدالله عليه السلام: كان النجابة من قبل اُمّه أسماء بنت عميس رحمة الله عليها، لا من قبل أبيه.
حمدويه بن نصير، عن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن أبي عمير، عن عمر بن اُذينة، عن زرارة بن أعين، عن أبي جعفر عليه السلام: إنّ محمّد بن أبي بكر بايع عليّاً عليه السلام على البراءة من أبيه.
حمدويه وإبراهيم قالا: حدّثنا محمّد بن عبدالحميد قال: حدّثني أبو جميلة عن ميسر بن عبدالعزيز، عن أبي جعفر عليه السلام قال: بايع محمّد ابن أبي بكر على البراءة من الثاني.
حمدويه، حدّثني عن محمّد بن عيسى، عن يونس بن عبدالرحمن، عن موسى بن مصعب، عن شعيب عن أبي عبدالله عليه السلام قال: سمعته يقول: ما من أهل بيت إلاّ ومنهم نجيب من أنفسهم، وأنجب النجباء من أهل بيت سوء منهم محمّد بن أبي بكر»(9).
7 ـ وأسنده إلى النجاشي أيضاً، والحال أنْ لا ذكر لمحمّد بن أبي بكر في كتابه أصلاً، فلا ذكره في أوائل الكتاب حيث عدّ جمعاً من أصحاب أميرالمؤمنين، ولا ذكره في باب المحمّدين… فكيف بولادته في حجّة الوداع؟
8 ـ وكذا إسناد المطلب إلى رجال الغضائري، فأمّا أصل كتابه، فليس موجوداً، وأمّا الرجاليون كالعلاّمة الحلّي وابن داود والشيخ بهاء الدين اللاّهيجي والسيّد مصطفى التفرشي والميرزا الأسترابادي وأبي علي الحائري… الذين ينقلون كلماته في تراجم الرجال… فلم ينقلوا في كتبهم عنه في محمّد شيئاً، فضلاً عن ذلك النقل الخاص المتعلِّق بتولّده… فمن أين هذا الإسناد؟
9 ـ والعلاّمة الحلّي لم يقل في محمّد رضي الله عنه في (خلاصة الأقوال) إلاّ: «محمّد بن أبي بكر، جليل القدر، عظيم المنزلة، من خواصّ عليّ عليه السلام»(10).
فبأيّ دليل نسب إليه القول بولادة محمّد في حجّة الوداع؟
(1) كتاب سليم بن قيس 2 : 822/ الحديث السابع والثلاثون .
(2) كتاب سليم بن قيس 2 : 823 ـ 824/ الحديث السابع والثلاثون .
(3) الإستيعاب في معرفة الأصحاب 2 : 794/1332 بترجمة أبي عبيدة .
(4) تحصيل الكمال في أسماء الرجال = رجال المشكاة . ترجمة محمّد بن أبي بكر .
(5) جامع الاصول 3 : 71/1349 . كتاب الحج ، الباب الثاني ، الفصل الأوّل .
(6) العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين 2 : 214/220 .
(7) الكافي 4 : 449/1 ، كتاب الحج .
(8) الكافي 4 : 444/2 ، كتاب الحج .
(9) رجال الكشي : 63 ـ 64/111 ـ 116 . ترجمة محمّد بن أبي بكر .
(10) خلاصة الأقوال = رجال العلاّمة الحلّي : 138/3 باب محمّد .