عثمان : إنّ في القرآن لحناً !
وقال ابن قتيبة:
«إنّ عثمان قال في قوله تعالى: ( إن هذان لساحران ) إنّ في القرآن لحناً. فقال رجل: صحّح ذلك الغلط. فقال: دعوه فإنّه لا يُحلّل حراماً ولا يُحرِّم حلالاً»(1).
وفي بعض الروايات:
«قال عثمان: إنّ في المصحف لحناً وسيقيمه العرب بألسنتهم، فقيل له: ألا تغيّره؟ فقال: دعوه، فلا يحلّل حراماً ولا يحرّم حلالاً» فقد جاء في (معالم التنزيل) للبغوي بتفسير الآية: ( لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما اُنزل إليك وما اُنزل من قبلك والمقيمين الصلاة ) ما نصّه:
«واختلفوا في وجه انتصابه فحكي عن عائشة وأبان بن عثمان أنّه غلط من الكاتب ينبغي أن يصلح ويكتب: والمقيمون الصلاة، وكذلك قوله في سورة المائدة ( إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون ) وقوله: ( إن هذان لساحران ) قالوا: ذلك خطأ من الكُتّاب، وقال عثمان رضي الله عنه: إنّ في المصحف لحناً وسيقيمه العرب بألسنتها، فقيل له: ألا تُغيّره؟ فقال: دعوه فإنّه لا يحلّ حراماً ولا يحرّم حلالاً»(2).
وقد ذكر ابن تيمية في (منهاجه) تفسير البغوي، فقال بالنسبة إلى الأحاديث المروية فيه:
«وأمّا الأحاديث، فلم يذكر في تفسيره شيئاً من الموضوعات التي رواها الثعلبي، بل يذكر منها الصحيح… ولم يذكر الأحاديث التي يظهر لعلماء الحديث أنها موضوعة كما يفعله غيره من المفسّرين كالواحدي…»(3).
وفي (الدر المنثور):
«أخرج ابن أبي داود، عن عبدالأعلى بن عبدالله بن عامر القرشي قال: لمّا فرغ من المصحف اُتي به عثمان فنظر فيه فقال: قد أحسنتم وأجملتم، أرى شيئاً من لحن ستقيمه العرب بألسنتها. قال ابن أبي داود: وهذا عندي يعني بلغتها فينا وإلاّ فلو كان فيه لحن لا يجوز في كلام العرب جميعاً لما استجاز أن يبعث إلى قوم يقرؤونه.
وأخرج ابن أبي داود عن عكرمة قال: لمّا اُتي عثمان بالمصحف رأى فيه شيئاً من لحن، فقال: لو كان المملي من هُذيل والكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا.
وأخرج ابن أبي داود عن قتادة: إنّ عثمان لمّا رفع إليه المصحف فقال: إنّ فيه لحناً وستقيمه العرب بألسنتها.
وأخرج ابن أبي داود عن يحيى بن يَعمر قال: قال عثمان: إنّ في القرآن لحناً وستقيمه العرب بألسنتها»(4).
وفي (الإتقان):
«حدّثنا حجّاج، عن هارون بن موسى، أخبرني الزبير بن الخِرّيت، عن عكرمة قال: لمّا كُتبت المصاحف عُرضَت على عثمان فوجد فيها حروفاً من اللحن، فقال: لا تغيّروها فإنّ العرب ستغيّرها ـ أو قال: ستعربها ـ بألسنتها، لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم يوجد فيه هذه الحروف; أخرجه من هذه الطريق ابن الأنباري في كتاب الردّ على من خالف مصحف عثمان وابن أشتة في كتاب المصاحف.
ثمّ أخرج ابن الأنباري نحوه من طريق عبدالأعلى بن عبدالله بن عامر وابن أشتة نحوه من طريق يحيى بن يعمر»(5).
وفي (تفسير) أبي الليث:
«قال ـ أي أبو عبيد ـ: وروي عن عثمان رضي الله عنه أنّه عُرِض عليه المصحف فوجد فيه حروفاً من اللحن، فقال: لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم يوجد فيه هذه الحروف»(6).
وقال ابن روزبهان بجواب العلاّمة الحلّي:
«وأمّا عدم تصحيح لفظ القرآن، لأنّه كان يجب عليه متابعة صورة الخط وهكذا كان مكتوباً في المصاحف، ولم يكن التغيير له جائزاً فتركه، لأنّه لغة بعض العرب».
ولنعم ما أفاده العلاّمة التستري في جوابه حيث قال:
«وأمّا ما ذكره في إصلاح إطلاق عثمان اللّحن على القرآن فلا يصدر إلاّ عن محجوج مبهوت، فإنّ المصنّف اعترض على عثمان بأنّه أطلق على القرآن اشتماله على اللحن المذموم المخلّ بالفصاحة، وهذا النّاصب يغمض العين عن جواب هذا الذي هو محطّ الطعن ويتعرّض بوجه ترك عثمان لتغييره وإصلاحه بقوله: دعوه… .
وما أشبه جوابه هذا بما أجاب به أجاب أهل خراسان عمداً عن سؤال أهل ماوراء النهر، بأنّ النبّال إذا أراد استعلام استقامة النبل واعوجاجه لِمَ يغمض أحد عينيه. وبأنّ الطير المسمّى باللق لق إذا قام لِمَ يرفع إحدى رجليه. فأجاب أهل خراسان بأنّ النبّال إنّما يغمض إحدى عينيه لأنّه لو أغمض العين الاُخرى لا يرى شيئاً، والطّير المذكور إنّما يرفع إحدى رجليه لأنّه لو رفع الرجل الآخر لسقط على الأرض، فليضحك أولياؤه كثيراً.
ومن العجب: أنّ عثمان صرّح بأنّ تلك العبارة من القرآن لا تقبل الإصلاح وأنّه لا حاجة إلى إصلاحه، لعدم تحليله حراماً وتحريمه حلالاً، وهذا الناصب المرواني ـ الذي غلب عليه هوى عثمان ـ لمّا علم أنّ ما قاله عثمان طعن لا مدفع له، عَدَل عن دفعه عنه وقال: تركه لأنّه كان لغة بعض العرب، فإنّ كونه لغة بعض العرب هو الوجه الذي ذكره العلماء لدفع وهم عثمان لا لدفع الطعن عنه، وأنّى يندفع الطعن عنه بذلك، ولو كان عثمان عالماً بموافقة ذلك للغة بعض العرب كيف صحّ له مع كثرة حياءه عند القوم أن لا يستحيي من الله ويطلق على بعض كلماته التامّات أنّه لحن وخطأ في القول؟ مع ظهور أنّ بعض ألفاظ القرآن وارد على لغة قريش وبعضها على لغة بني تميم وبعضها على لغة غيرهم».
(1) تأويل مشكل القرآن : 50 ـ 51 .
(2) تفسير البغوي = معالم التنزيل 2 : 187 ـ 188 .
(3) منهاج السنّة 4 : 39 .
(4) الدر المنثور 2 : 745 .
(5) الاتقان في علوم القرآن 2 : 320 .
(6) تفسير أبي الليث السمرقندي 1 : 404 و450 و2 : 347 ـ 348 .