سمع الحديث وهو ابن أربع سنين
وأخرج مسلم بإسناده عن عبدالله بن الزبير قال: «كنت أنا وعمر بن سلمة يوم الخندق مع النسوة في أطم حسان، فكان يطأطىء لي مرّةً فأنظر وأطأطىء له مرّةً فينظر، فكنت أعرف أبي إذا مرَّ على فرسه في السلاح إلى بني قريظة. قال: وأخبرني عبدالله بن عروة عن عبدالله بن الزبير قال: فذكرت ذلك لأبي فقال: ورأيتني يا بني؟ قلت: نعم».
فقال النووي بشرحه: «وفي هذا الحديث دليل لجواز ضبط الصبيوتمييزه وهو ابن أربع سنين. فإنّ ابن الزبير ولد عام الهجرة في المدينة، وكان الخندق سنة أربع من الهجرة على الصحيح، فيكون في وقت ضبطه لهذه القصّة دون أربع سنين. وفي هذا ردّ على ما قاله جمهور المحدّثين أنّه لا يصحّ سماع الصبي حتّى يبلغ خمس سنين، والصواب صحّته متى حصل التمييز وإنْ كان ابن أربع أو دونها. وفيه منقبة لابن الزبير لجودة ضبطه لهذه القصّة مفصّلةً في هذا السن»(1).
* والألطف من ذلك ما جاء عن عبدالله بن محمّد بن عبدالرحمن الإصبهاني في غير واحد من الكتب، مثل: (الكفاية) للخطيب، و(علوم الحديث) لابن الصلاح، و(تدريب الراوي) للسيوطي، و(عمدة القاري) للعيني… وغيرها…
قال الخطيب: «سمعت القاضي أبا محمّد عبدالله بن محمّد بن عبدالرحمن الإصبهاني يقول: حفظت القرآن ولي خمس سنين، وحملت إلى أبي بكر ابن المقري لأسمع منه ولي أربع سنين.
فقال بعض الحاضرين: لا تسمعوا له فيما قرأ فإنّه صغير.
فقال لي ابن المقري: إقرأ سورة الكافرون، فقرأتها ولم أغلط فيها.
فقال: إقرأ سورة التكوير، فقرأتها.
فقال لي غيره: إقرأ سورة والمرسلات، فقرأتها ولم أغلط فيها.
فقال ابن المقري: إسمعوا له والعهدة علَيّ.
سمعت أباصالح صاحب أبي مسعود أحمد بن الفرات يقول: العجب من إنسان يقرأ والمرسلات عن ظهر قلبه ولا يغلط فيها.
وحكي أنّ أبا مسعود ورد إصبهان ولم تكن كتبه معه، فأملى كذا وكذا ألف حديث عن ظهر قلبه، فلمّا وصلت الكتب إليه قوبلت بما أملى، فلم تختلف إلاّ في مواضع يسيرة»(2).
وقال العيني: «حفظ القرآن أبو محمّد عبدالله بن محمّد الإصبهاني وله خمس سنين، فامتحنه فيه أبوبكر ابن المقري، وكتب له بالسماع وهو ابن أربع سنين»(3).
فأيّ عجب من محمّد بن أبي بكر إذا أمر أباه بأنْ يقول: لا إله إلاّ الله؟
* وماذا يقول القائل إذا سمع ما جاء في (علوم الحديث) لابن الصّلاح وغيره من الكتب من أنّه «قد بلغنا عن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: رأيت صبيّاً ابن أربع سنين وقد حمل إلى المأمون، وقد قرأ القرآن ونظر في الرأي، غير أنّه إذا جاع بكى»(4)؟
وعلى هذا الأساس، ذهب العلماء من الفريقين إلى أنّه يعتبر كلّ صغير بحاله، فمتى فهم الخطاب وميّز ما يسمعه، صحّ سماعه وإنْ كان دون خمس سنين، كما جاء في كتاب (شرح البداية) للشهيد الثاني من أصحابنا، وفي (عمدة القاري) و(المنهل الروي) و(علوم الحديث) وغيرها من كتب القوم.
(1) شرح صحيح مسلم للنووي 15 : 189 ـ 190 كتاب الفضائل ، فضائل طلحة والزبير .
(2) الكفاية في علم الرواية : 64 ـ 65/ باب ما جاء في سماع الصغير .
(3) عمدة القاري في شرح البخاري 2 : 68 ، كتاب العلم ، باب قول النّبي : اللهمّ علّمه الكتاب .
(4) علوم الحديث : 75/ النوع الرابع والعشرون ، معرفة كيفيّة سماع الحديث …