رأي الغزالي في خبر الميثاق
وهذا بخلاف الغزّالي مثلاً ـ من علماء القوم ـ فإنّه ينكر أصل الميثاق كما في كتابه (المضنون به على أهله):
«فقيل له ـ أي للغزالي ـ: إن كانت الأرواح حادثة مع الأجساد، فما معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، وقوله عليه السلام: أنا أوّل الأنبياء خلقاً وآخرهم بعثاً، وقال عليه السلام: كنت نبيّاً وآدم بين الماء والطين؟
فقال رضي الله عنه: شيء من هذه لا يدلّ على قدم الروح، بل يدلّ على حدوثه وكونه مخلوقاً، نعم، ربّما يدلّ بظاهره على تقدّم وجوده على الجسد، وأمر الظواهر ضعيف وتأويلها يمكن، والبرهان القاطع لا يدرء بالظواهر، بل يسلّط على تأويل الظواهر، كما في ظواهر التشبيه في حقّ الله.
وأمّا قوله صلّى الله عليه وسلّم: خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، فأراد بالأرواح أرواح الملائكة، وبالأجساد أجساد العالم من العرش والكرسي والسماوات والكواكب والماء والهواء والأرض، كما أنّ أجساد الآدميّين بجملتهم صغيرة بالإضافة إلى الأرض، وجرم الأرض أصغر من الشمس بكثير، ثمّ لا نسبة لجرم الشمس إلى فلكه، ولا لفلكه إلى السماوات التي فوقه، ثمّ كلّ ذلك اتّسع له الكرسي، إذ وسع كرسيّه السماوات والأرض، والكرسي صغير بالإضافة إلى العرش، فإذا تفكّرت في جميع ذلك، استحقرت جميع أجساد الآدميّين، ولم تفهمها من مطلق لفظ الأجساد.
فكذلك فاعلم وتحقّق: أنّ أرواح البشر بالإضافة إلى أرواح الملائكة كأجسادهم بالإضافة إلى أجساد العالم، ولو انفتح لك باب معرفة أرواح الملائكة لرأيت الأرواح البشريّة كسراج اقتبس من نار عظيمة طبّق العالم، وتلك النار العظيمة هي الروح الأخير من أرواح الملائكة، ولأرواح الملائكة ترتيب، ولكلّ واحد انفراد بمرتبة، ولا يجتمع في مرتبة واحدة اثنان، بخلاف الأرواح البشريّة المتكثّرة مع اتّحاد النوع والمرتبة، أمّا الملائكة فكلّ واحد نوع برأسه وهو كلّ ذلك النوع، وإليه الإشارة بقوله تعالى: ( وإنّا لنحن الصافّون وإنّا لنحن المسبّحون ) وبقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إنّ الراكع منهم لا يسجد، والقائم منهم لا يركع، وإنّه ما من واحد إلاّ له مقام معلوم، فلا تفهمنّ إذاً من الأرواح والأجساد المطلقة أرواح الملائكة.
وأمّا قوله عليه الصلاة والسلام: أنا أوّل الأنبياء خلقاً وآخرهم بعثاً; فالخلق هاهنا هو الإيجاد، فإنّه قبل أن ولدته اُمّه ليس موجوداً مخلوقاً، ولكن الغايات والكمالات سابقة في التقدير لاحقة في الوجود، وهو معنى قولهم: أوّل الفكرة آخر العمل. بيانه: أنّ المقدّر المهندس أوّل ما يتمثّل صورته في تقديره، وهي دار كاملة، وآخر ما يوجد في أثر أعماله هي الدار الكاملة; فالدار الكاملة أوّل الأشياء في ذهنه تقديراً وآخرها وجوداً، لأنّ ما قبلها من ضرب اللبنات وبناء الحيطان وتركيب الجذوع وسيلة إلى غاية الكمال وهي الدار، فالغاية هي الدار، ولأجلها تقدّر الآلات والأعمال»(1).
فإن لم يتيسّر الوقوف على كتاب الغزالي، فقد نقل المتأخرون مقالته في كتبهم، ففي (المواهب اللدنيّة) ـ مثلاً ـ جاء محصّل المقالة المذكورة حيث قال:
«فإن قلت: إنّ النبوّة وصف، ولابدّ أن يكون الموصوف به موجوداً، وإنّما يكون بعد بلوغ أربعين سنة أيضاً، فكيف يوصف به قبل وجوده وإرساله؟
قلت: أجاب الغزالي في كتاب النفخ والتسوية عن هذا وعن قوله عليه الصّلاة والسّلام: أنا أوّل الأنبياء خلقاً وآخرهم بعثاً، بأنّ المراد بالخلق هنا التقدير دون الإيجاد، فإنّه قبل أنْ ولدته اُمّه لم يكن موجوداً مخلوقاً، ولكن الغايات والكمالات سابقة في التقدير لاحقة في الوجود…»(2).
فإنّ هذا الكلام يفيد أنّ الغزالي ينكر تقدّم خلق الأرواح على الأجساد، ولا يسلّم بأنّ للخلق وجوداً سابقاً على ولادتهم الظاهريّة في هذا العالم، ولا يرى خلقةً للنبيّ قبل وجوده الظاهري، فضلاً عن القول بالوجود في عالم الذرّ.
ومن الواضح أنّ أخذ الميثاق في عالم الأرواح فرع على وجودها فيه.
فالغزالي ينكر وقوع الميثاق في ذلك العالم، مع دلالة الأحاديث الكثيرة الواردة من طرقهم في ذلك، وكونها مخرّجةً في كتابي البخاري ومسلم، وفي الموطّأ لمالك(3)، وغيرها من كتبهم… كما أنّ السيوطي أخرج ما يقارب الخمسين حديثاً في أخذ الميثاق من ذريّة آدم في عالم الأرواح، بذيل الآية المباركة من (الدرّ المنثور)(4).
وقد نصَّ الشعراني في (اليواقيت) على ابتناء كثير من الإعتقادات في إثبات الحشر والنشر على مسألة الميثاق(5).
وحينئذ، فكلّ جواب يذكرونه من طرف الغزالي، فهو الجواب من طرف السيّد المرتضى لو صحّت النسبة إليه!
(1) المضنون به على أهله . وهذا الكلام موجود في رسالته (الأجوبة الغزالية في المسائل الاخرويّة) ضمن (مجموعة رسائل الإمام الغزالي) : 178 ـ 180 .
(2) شرح المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّدية 1 : 36 .
(3) الموطأ 2 : 898 ـ 899/2 كتاب القدر ، باب النهي عن القول بالقدر .
(4) الدر المنثور 3 : 598 ـ 607 .
(5) اليواقيت والجواهر : 439 ـ 442 .