حول كلام المفيد في معنى «الصور»
وأمّا ما نسب إلى الشيخ المفيد رحمه الله من تأويل «الصور»، وأنّه يقول بأنّه جمع للصّورة، ففيه كلام كذلك، ومجرّد قول الشيخ المجلسي «وسبقه الشيخ المفيد» لا يكفي، إذ يحتمل أن يكون مراده أنّ الشيخ المفيد قد سبق الشيخ الطبرسي في نقل القول المذكور عن بعض العامّة.
ولو سلّمنا أنّ الشيخ المفيد يجوّز أنْ يكون «الصور» جمعاً للصورة، فإنّه لا ينكر «الصور» بمعنى «القرن» الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام، لثبوت ذلك في الكتاب والسنّة، غاية ما هناك أنّه جوّز في بعض تلك الأدلّة أنْ يكون «الصور» جمعاً للصورة، وذلك لا يلازم إنكار كون المراد هو «القرن» في البعض الآخر كما هو واضح…
فإنْ كان الخصم في شكّ من هذا، ذكرنا له كلام إمامه الفخر الرازي بتفسير قوله تعالى: ( يوم يُنْفَخ في الصور ) فإنّه يصدّق ما قلناه تماماً، وهذا نصّه:
«المسألة الثالثة: قوله تعالى: ( يوم يُنْفَخُ في الصور ) لا شبهة أنّ المراد منه يوم الحشر، ولا شبهة عند أهل الإسلام أنّ الله سبحانه خلق قرناً ينفخ فيه ملك من الملائكة، وذلك القرن مسمّى بالصور على ما ذكر الله هذا المعنى في مواضع من الكتاب الكريم، ولكنّهم اختلفوا في المراد بالصّور في هذه الآية على قولين: الأوّل: إنّ المراد منه ذلك القرن الذي ينفخ فيه وصفته مذكورة في سائر السور، والقول الثاني: إنّ الصور جمع صورة، والنفخ في الصور عبارة عن النفخ في صور الموتى»(1).
فلو فرض تفسير الشيخ المفيد لفظ «الصور» في بعض الموارد بـ«جمع الصورة»، فإنّ هذا لا يستلزم كونه منكراً وجود «الصور» بمعنى «النفخ»، وكيف يجوز نسبة ذلك إليه؟ والحال أنّ كلامه في (أجوبة المسائل السروية) صريح في الإعتقاد بالصور. و هذه عبارة السؤال والجواب على ما نقل في (البحار):
«ما قوله ـ أدام الله تأييده ـ في عذاب القبر وكيفيّته؟ ومتى يكون؟ وهل تردّ الأرواح إلى الأجساد عند التعذيب أم لا؟ وهل يكون العذاب في القبر أو يكون بين النفختين؟
الجواب: الكلام في عذاب القبر طريقه السمع دون العقل، وقد ورد عن أئمة الهدى عليهم السلام أنّهم قالوا: ليس يعذّب في القبر كلّ ميّت، وإنّما يعذّب من جملتهم من محّض الكفر محضاً، ولا ينعم كلّ ماض لسبيله، وإنّما ينعم منهم من محّض الإيمان محضاً، فأمّا سوى هذين الصنفين فإنّه يلهى عنهم، وكذلك روي: أنّه لا يُسئَل في قبره إلاّ هذان الصنفان خاصّة، فعلى ما جاء به الأثر من ذلك يكون الحكم ما ذكرناه.
فأمّا عذاب الكافر في قبره، ونعيم المؤمنين فيه، فإنّ الخبر أيضاً قد ورد بأنّ: الله تعالى يجعل روح المؤمن في قالب مثل قالبه في الدنيا في جنّة من جنانه ينعمه فيها إلى يوم الساعة، فإذا نُفِخ في الصور اُنشىء جسده الذي بُلي في التراب وتمزّق، ثمّ أعاده إليه وحشره إلى الموقف وأمر به إلى جنّة الخلد، فلا يزال منعّماً ببقاء الله عزّوجلّ، غير أنّ جسده الذي يعاد فيه لا يكون على تركيبه في الدنيا، بل تعدّل طباعه وتحسّن صورته، فلا يهرم مع تعديل الطباع، ولا يمسّه نصبٌ في الجنّة ولا لغوب.
والكافر يجعل في قالب كقالبه في الدنيا في محلّ عذاب يعاقب به ونار يعذّب بها حتّى الساعة، ثمّ اُنشىء جسده الذي فارقه في القبر ويعاد إليه، ثمّ يعذّب به في الآخرة إلى الأبد، ويركّب أيضاً جسده تركيباً لا يفنى معه، وقد قال الله عزّ وجلّ اسمه: ( النّار يُعرضون عليها غدوّاً وعشيّاً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب ) وقال في قصّة الشهداء: ( ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيلِ الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربّهم يُرزقون ).
فدلّ أنّ العذاب والثواب يكونان قبل يوم القيامة وبعدها.
والخبر وارد بأنّه يكون مع فراق الروح الجسد من الدنيا، والروح هاهنا عبارة عن الفعّال الجوهر البسيط، وليس بعبارة عن الحياة التي يصحّ معها العلم والقدرة، لأنّ هذه الحياة عرض لا يبقى ولا يصحّ الإعادة فيه.
فهذا ما عوّل عليه بالنقل وجاء به الخبر على ما بيّنّاه»(2).
هذا كلام الشيخ المفيد، وهو نصّ قاطع في أنّه غير منكر للصور، بل ذكر عقيدته على أساس الأخبار المرويّة عن الأئمّة الأطهار ـ عليهم السلام ـ وجعلها المعوَّل عليه والمعتَمد.
ولا يتوهّم أنّ هذا الكلام أيضاً، يحتمل كون المراد من الصور هو نفخ الأرواح في الأجساد، وأنّ الصور جمع الصورة.
لأنّ هذا الإحتمال فاسد قطعاً، وكلامه صريح في أنّ المراد من «الصور» هو «القرن» لا جمع الصورة، ويدلّ على ذلك وجهان:
الأوّل: قوله: «فإذا نفخ في الصور اُنشىء جسده…» فإنّه يدلّ بوضوح على أنّ إنشاء الجسد إنّما يكون بعد نفخ الصور، فنفخ الصور متقدّم على إنشاء الجسد الذي بلي في التراب وتمزّق، وهذا مقتضى الشرط والجزاء، فإنّ الجزاء متفرّع على وجود الشرط متأخّر عنه. ومن البديهي أنّه لو كان «الصور» جمع الصّورة، وكان المراد نفخ الأرواح في الأجساد، لم يكن تأخّر إنشاء الجسد، وإلاّ لزم تأخّر الشيء عن نفسه، لأنّ النفخ في الصور ـ على تقدير كون «الصور» جمع الصورة ـ هو نفخ الأرواح في الأجساد، فلابدّ من إنشاء الأجساد قبل النفخ حتى ينفخ فيها الأرواح.
الثاني: إنّ لفظة «ثمّ» في قوله: «ثمّ أعاد إليه وحشره إلى الموقف…» صريحٌ في تأخّر إعادة الروح إلى الجسد عن نفخ الصور وإنشاء الجسد، كما هو ظاهر لفظة «ثمّ» الموضوعة للتراخي والبعديّة، ولا ريب أنّ إعادة الروح إلى الجسد هو عين نفخ الروح فيه… فلو كان المراد من ( فإذا نُفخ في الصور )هو جمع الصورة، وكان المراد من النفخ هو نفخ الأرواح في الأجساد، لزم تأخّر الشيء عن نفسه.
وتلخّص: أنّ الشيخ المفيد رحمه الله يقول بوجود الصور بمعنى القرن، وبوقوع النفخ فيه كما دلّت عليه الأدلّة، وقد أشار إليها في جواب السؤال ونصَّ على الإعتماد عليها… فلا يجوز نسبة غير ذلك إليه ألبتّة.
(1) تفسير الرازي 13 : 33 .
(2) بحارالأنوار 6 : 272 ـ 273 عن أجوبة المسائل السرويّة .