تنبيه حول رأي الرازي
قد تقدَّم في كلام السيوطي وابن حجر المكي: أنّ الفخر الرازي من القائلين بإسلام آباء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنّ السيوطي والقسطلاني نقلا ذلك عنه في كتابه (أسرار التنزيل)، فاقتضى ذلك مراجعة الكتاب المذكور، ومراجعة (التفسير الكبير).
أمّا في (التفسير الكبير) فقد وجدنا الرازي ـ وللأسف الشديد ـ يحاول إثبات القول المخالف للحق، فكان من الضروري الوقوف على كلامه في (أسرار التنزيل) لمعرفة مدى صحّة ما نسبوا إليه، حتّى عثرنا عليه فوجدناه كذلك، فإنّه ينقل القول الحقّ الصحيح ثمّ يردّ عليه بزعمه، غير أنّه في (التفسير الكبير) ينسب القول الحق والإستدلال عليه إلى الإماميّة بصراحة، أمّا في (أسرار التنزيل) فيذكر في والد سيّدنا إبراهيم عليه السلام قولين ـ بلا نسبة لأحد ـ أحدهما: كون آزر والده، والآخر: أنّه لم يكن والده… فأورد للاستدلال على هذا القول ما نقله السيوطي وغيره عنه… ثمّ جعل يردّ عليه… وكأنّ السيوطي لم يلحظ آخر كلامه، فنسب إليه القول بالحق، والحال أنّه ليس كذلك.
وإليك نصّ كلامه في (التفسير الكبير):
«قالت الشيعة: أنّ أحداً من آباء الرسول وأجداده ما كان كافراً، وأنكروا أن يقال أنّ والد إبراهيم كان كافراً، وذكروا أنّ آزر كان عمّ إبراهيم عليه السلام وما كان والداً له، واحتجّوا على قولهم بوجوه:
الحجّة الاُولى: إنّ آباء الأنبياء ما كانوا كفّاراً، ويدلّ عليه وجوه: منها قوله تعالى: ( الذي يراك حين تقوم وتقلّبك في الساجدين )(1) قيل: معناه أنّه كان ينقل روحه من ساجد إلى ساجد، وبهذا التقرير فالآية دالّة على أنّ جميع آباء محمّد عليه السلام كانوا مسلمين، وحينئذ، يجب القطع بأنّ والد إبراهيم كان مسلماً.
فإن قيل: ( وتقلّبك في الساجدين ) يحتمل وجوهاً اُخرى:
أحدها: أنّه لمّا نسخ فرض قيام اللّيل، طاف الرسول عليه السلام تلك اللّيلة على بيوت أصحابه لينظر ماذا يصنعون، لشدّة حرصه على ما يظهر منهم من الطاعات، فوجدها كبيوت الزنابير، لكثرة ما يسمع من أصوات قراءتهم وتسبيحهم وتهليلهم، فالمراد من قوله ( وتقلّبك في الساجدين ) طوافه صلوات الله عليه تلك اللّيلة على الساجدين.
وثانيها: المراد أنّه عليه السلام كان يصلّي بالجماعة، فتقلّبه في الساجدين معناه: كونه فيما بينهم ومختلطاً بهم حال القيام والركوع والسجود.
وثالثها: أن يكون المراد أنّه لا يخفى حالك على الله كلّما قمت وتقلّبت مع الساجدين في الاشتغال باُمور الدين.
ورابعها: المراد تقلّب بصره فيمن يصلّي خلفه، والدليل عليه قوله عليه السلام: أتمّوا الركوع والسجود فإنّي أراكم من وراء ظهري.
فهذه الوجوه الأربعة ممّا يحتملها ظاهر الآية، فسقط ما ذكرتم.
والجواب: لفظ الآية محتمل للكلّ، وليس حمل الآية على البعض أولى من حملها على الباقي، فوجب أن نحملها على الكلّ، وحينئذ حصل المقصود.
وممّا يدلّ أيضاً على أنّ أحداً من آباء محمّد عليه السلام ما كان من المشركين: قوله عليه السلام: «لم أزل أُنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات»، وقال تعالى: ( إنّما المشركون نَجَسٌ )(2) وذلك يوجب أن يقال: أنّ أحداً من أجداده ما كان من المشركين.
إذا ثبت هذا فنقول: ثبت بما ذكرنا أنّ والد إبراهيم عليه السلام ما كان مشركاً، وثبت أنّ آزر كان مشركاً، فوجب القطع بأنّ والد إبراهيم كان إنساناً آخر غير آزر….
وأمّا أصحابنا، فقد زعموا أنّ والد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان كافراً، وذكروا أنّ نصّ الكتاب في هذه الآية يدلّ على أنّ آزر كان كافراً، وكان والد إبراهيم عليه السلام، وأيضاً: قوله تعالى: ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه )(3)إلى قوله ( فلمّا تبيّن له أنّه عدوٌّ لله تبرّأ منه )(4) وذلك يدلّ على قولنا. وأمّا قوله ( وتقلّبك في الساجدين ) قلنا: قد بيّنّا أنّ هذه الآية تحتمل سائر الوجوه، قوله: تحمل هذه الآية على الكل، قلنا: هذا محال، لأنّ حمل اللفظ المشترك على جميع معانيه لا يجوز، وأيضاً: حمل اللفظ على حقيقته ومجازه معاً لا يجوز.
وأمّا قوله عليه السلام: لم أزل أُنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات، فذلك محمول على أنّه ما وقع في نسبه ما كان…..»(5).
وقال في (أسرار التنزيل):
«أمّا قوله تعالى ( وإذ قال إبراهيم لأبيه )(6) ففيه مسائل:
المسألة الاُولى: في آزر قولان:
الأوّل: إنّه والد إبراهيم عليه السلام، ولهم في ذلك دلائل:
الحجّة الاُولى: ظاهر لفظ القرآن في هذه الآية يدلّ على ذلك، ثمّ إنّ ظاهر هذه الآية متأكّد بآيات اُخرى، منها: قوله تعالى في سورة مريم: ( إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر )(7) وقال أيضاً: ( ما كان استغفار إبراهيم لأبيه )إلى قوله: ( فلمّا تبيّن له أنّه عدوّ لله تبرّأ منه )، فكلّ هذه الآيات تدلّ على أنّ أبا إبراهيم كان كافراً عابداً للوثن.
الحجّة الثانية: إنّ العرب سمعوا هذه الآية، وقد كانوا أحرص الناس على تكذيب الرسول وأعظمهم رغبة في براءة شجرة النسب عن كلّ عيب، فلو لم يكن آزر والد إبراهيم لتسارعوا إلى تكذيبه، ولوجدوا ذلك غنيمة عظيمة في الطعن فيه.
الحجّة الثالثة: إنّه تعالى ذكر قصّة إبراهيم عليه السلام مع أبيه في آيات كثيرة، ولم يذكر اسم العمّ في القرآن، فيتعذّر حمل لفظ الأب في هذه الآية على العم.
القول الثاني: إنّ آزر لم يكن والد إبراهيم عليه السلام. واحتجّوا عليه بوجوه:
الأوّل: إنّ آباء الأنبياء ما كانوا كفّاراً، ويدلّ عليه وجوه:
منها: قوله تعالى: ( الذي يراك حين تقوم وتقلّبك في الساجدين ) قيل: معناه أنّه كان ينتقل روحه من ساجد إلى ساجد، وبهذا التقرير، فالآية دالّة على أنّ جميع آباء محمّد عليه السلام كانوا مسلمين، وحينئذ، يجب القطع بأنّ والد إبراهيم ما كان من الكافرين، أقصى ما في الباب أن يحمل قوله تعالى ( وتقلّبك في الساجدين ) على وجوه:
منها: إنّه لمّا نسخ فرض قيام الليل طاف الرسول عليه السلام تلك الليلة على بيوت أصحابه لينظر ماذا يصنعون، لشدّة حرصه على ما يظهر منهم من الطاعات، فوجدها كبيوت الزنابير لكثرة ما يسمع من دندنتهم بذكر الله، فالمراد من قوله ( وتقلّبك في الساجدين ) طوفه عليه السلام على الساجدين في تلك الليلة.
ومنها: المراد يراك حين تقوم للصّلاة بالناس جماعة، وتقلّبه في الساجدين: كونه فيما بينهم بقيامه وركوعه وسجوده; لأنّه كان إماماً.
ومنها: أنّه لا يخفى على الله حالك كلّما قمت وتقلّبت مع الساجدين، في الإشتغال بأمر الدين.
ومنها: المراد تقلّب بصره فيمن يصلّي خلفه من قوله: أتمّوا الركوع والسجود فإنّي أراكم من ورائي وخلفي.
فهذه الآية وإن كانت تحتمل هذه الوجوه الأربعة، إلاّ أنّ الوجه الذي ذكرناه الآن أيضاً محتمل، والروايات وردت بالكلّ، ولا منافاة بين هذه الوجوه، فوجب حمل الآية على الكلّ، ومتى صحّ ذلك ثبت أنّ والد إبراهيم ما كان من عبدة الأوثان.
وممّا يدلّ على أنّ آباء محمّد عليه السلام ما كانوا من المشركين: قوله عليه السلام: لم أزل أُنتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات، وقال تعالى: ( إنّما المشركون نجس )، فوجب أن لا يكون أحد من آبائه مشركاً.
الحجّة الثانية على أنّ آزر ما كان والد إبراهيم عليه السلام: إنّ هذه الآية دالّة على أنّ إبراهيم شافه آزر بالغلظة، ومشافهة الأب بالغلظة لا تجوز، وذلك يدلّ على أنّ آزر ما كان والد إبراهيم. أما إنّ إبراهيم شافه آزر بالغلظة، فلوجهين:
الأوّل: إنّه قرىء ( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر ) بضمّ آزر، وهذا يكون محمولاً على النداء، ومخاطبة الأب ونداؤه بالإسم من أعظم أنواع الجفاء.
الثاني: إنّه قال لآزر: ( إنّي أراك وقومك في ضلال مبين ) وهو من أعظم أنواع الإيذاء.
فثبت أنّه شافه آزر بالغلظة.
وإنّما قلنا أنّ مشافهة الأب بالغلظة لا يجوز، لوجوه:
الأوّل: قوله تعالى: ( وقضى ربّك ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه وبالوالدين إحساناً )وهذا عام في حقّ الكافر والمسلم. وقال تعالى: ( لا تقل لهما اُفّ ولا تنهرهما )وهذا أيضاً عام.
الثاني: إنّه تعالى لمّا بعث موسى إلى فرعون أمره بالرفق معه، قال تعالى: ( فقولا له قولاً ليّناً ) والسبب في ذلك أن يصير هذا رعاية لحقّ تربية فرعون، فهاهنا الوالد أولى بالرفق.
الثالث: إنّ الدعوة مع الرفق أكثر تأثيراً في القلب، وأمّا التغليظ فإنّه ينفّر السامع عن القبول، ولهذا قال تعالى لمحمّد عليه السلام: ( وجادلهم بالتي هي أحسن )، فكيف يليق بإبراهيم هذه الخشونة مع أبيه في وقت الدعوة.
الرابع: إنّه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام الرفق الشديد مع هذا المسمّى بالأب، وهو قوله: ( يا أبت لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً )، ثمّ إنّ ذلك الإنسان غلظ معه في القول فقال: ( لئن لم تنته لأرجمنّك )، ثمّ إنّ إبراهيم عليه السلام ما ترك الرفق معه بل قال: ( سلام عليك سأستغفر لك ربّي )، فإذا كان عادة إبراهيم في الرفق والقول الحسن هذا، فكيف يليق أن يظهر الخشونة والغلظة مع أبيه؟
فثبت بهذه الحجّة أنّ آزر ما كان والد إبراهيم.
الحجّة الثالثة: إنّه جاء في كتب التواريخ: أنّ اسم والد إبراهيم عليه السلام تارخ، وأمّا آزر فهو كان عمّ إبراهيم.
ثمّ إنّ القائلين بهذا القول أجابوا عن دلائل أصحاب القول الأوّل فقالوا:
القرآن وإن دلّ على تسمية آزر بالأب، إلاّ أنّ هذا لا يدلّ على القطع بكونه والداً له، وذلك، لأنّ لفظة الأب فقد تطلق على العمّ، قال تعالى حكاية عن أولاد يعقوب: ( نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل ) فسمّوا إسماعيل أباً ليعقوب، مع أنّ إسماعيل كان عمّاً ليعقوب، وقال رسولنا عليه السلام: ردّوا علَيّ أبي. يعني العبّاس. وأيضاً: يحتمل أن يكون آزر كان أب اُم إبراهيم، وهذا قد يقال له الأب، قال تعالى: ( ومن ذرّيّته داود وسليمان ) إلى قوله: ( وعيسى )، فجعل عيسى من ذرّيّة إبراهيم مع أنّه كان جدّه من قبل الاُمّ، وبهذا ظهر الجواب عن الحجّة الثانية، وذلك لأنّ تسمية العم بالأب مشهور في اللغة العربيّة، فلهذا السبب في هذه الآية ما كذّبوه.
هذا تمام هذا الكلام في نصرة هذا القول.
واعلم أنّ القول الأوّل أولى، وذلك لأنّ ظاهر لفظ الأب يدلّ على الوالد.
أمّا التمسّك بقوله تعالى: ( وتقلّبك في الساجدين ) فهو محمول على سائر الوجوه، ولا نحمله على أنّ روحه كانت تنتقل من ساجد إلى ساجد، محافظة على ظاهر الآية التي تمسّكنا بها وهو قوله ( لأبيه آزر ).
وأمّا الحجّة الثانية فجوابها: إنّكم تمسّكتم بعمومات دالّة على أنّه لا يجوز إظهار الخشونة مع الأب فنقول: إن قلنا بما ذكرتم سَلِمَتْ تلك العمومات عن هذا التخصيص، إلاّ أنّه وجب حمل لفظ الأب على المجاز، وإن أجرينا لفظ الأب على حقيقته، لزمنا إدخال التخصيص في تلك العمومات، لكنّا بيّنّا في اُصول الفقه إنّه مهما وقع التعارض بين المجاز والتخصيص، كان التزام التخصيص أولى، فكان الترجيح معنا»(8).
أقول :
وأمّا تشكيكات الرازي ـ المعروف بإمام المشكّكين ـ في استدلال أهل الحق بالآية ( وتقلّبك في الساجدين ) والحديث المذكور، فركيكة جدّاً.
أمّا في الآية فغاية ما قال: إنّ حمل اللفظ المشترك على جميع معانيه غير جائز، كحمل اللفظ الواحد على كلا معنييه الحقيقي والمجازي، وفيه:
أوّلاً: إنّه متى ورد بتفسير الآية المباركة رواية من أهل السنّة تثبت قول أهل الحق، صحّ الاستدلال بها، لمطابقتها روايات أهل البيت عليهم السلام واعتضادها بالأدلّة السديدة الاُخرى، وحينئذ، لا يلتفت إلى الأقوال والتفاسير الاُخرى للآية، ولا تكون قادحةً في هذا الاستدلال.
وقد عرفت من كلام السيوطي احتجاج الماوردي صاحب كتاب (الحاوي) بالآية على إسلام آباء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكفى بذلك ردعاً للشبهات ودفعاً للتوهّمات.
وثانياً: إنّ إرادة المعاني المتعدّدة من اللفظ المشترك جائز عند الشافعي وهو إمام الفخر الرازي، بل لقد قال بوجوبه عند عدم المخصّص… وقد ذكر الرازي نفسه هذا القول عن الشافعي في كتابه الذي ألّفه في ترجيح مذهبه ـ أي الشافعي ـ على سائر المذاهب، ودافع عنه ونصّ على موافقة أجلّة الاُصوليّين معه، وهذا نصّ عبارة الرازي:
«المسألة الرابعة: عابوا عليه قوله: اللفظ المشترك محمول على جميع معانيه عند عدم المخصص. قالوا: والدليل على أنّه غير جائز: أنّ الواضع وضعه لأحد المعنيين فقط، فاستعماله فيهما يكون مخالفةً للّغة.
وأقول: إنّ كثيراً من الاُصوليّين المحقّقين وافقوه عليه، كالقاضي أبي بكر الباقلاني والقاضي عبدالجبار بن أحمد، ووجه قوله فيه ظاهر، وهو أنّه لمّا تعذَّر التعطيل والترجيح لم يبق إلاّ الجمع. وإنّما قلنا: إنّه تعذّر التعطيل، لأنّه تعالى إنّما ذكره للبيان والفائدة، والقول بالتعطيل إخراج له عن كونه بياناً، وإنّما قلنا: إنّه تعذّر الترجيح، لأنّه يقتضي ترجيح الممكن من غير مرجح وهو محال. ولمّا بطل القسمان لم يبق إلاّ الجمع. وهذا وجه قويّ حسن في المسألة، وإنْ كنّا لا نقول به»(9).
فظهر: إنّ هذا القول قول إمامه الشافعي، وغير واحد من الأئمّة موافقون له، والرازي يدافع عنه بوجه قوي حسن.
وإذا كان الرازي لا يوافق عليه في (التفسير الكبير)، فهو موافق له في (أسرار التنزيل) حيث يقول:
«أمّا التمسّك بقوله تعالى: ( وتقلّبك في الساجدين ) فهو محمول على سائر الوجوه، ولا نحمله على أنّ روحه كانت تنتقل من ساجد إلى ساجد»(10).
فإنّ معنى الحمل على سائر الوجوه هو الحمل على المعاني المتعدّدة.
وأمّا في الحديث ـ وهو قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لم أزل اُنقل من أصلاب الطاهرين ـ فحاصل استدلال أهل الحق هو: إنّ الله تعالى وصف المشركين بالنجاسة وهي ضدّ الطهارة، فلو كان آباؤه صلّى الله عليه وآله وسلّم مشركين لما وصفهم بالطهارة، وإلاّ لزم اجتماع الضدّين.
ولم يتعرَّض الفخر الرازي للجواب عن هذا الاستدلال، والحديث منقول بطرق متعدّدة، فحاول تأويله بما لم يرتضه هو في (أسرار التنزيل) حيث لم يذكره أصلاً، وإنّما قال:
«وأمّا الحديث، فهو خبر واحد فلا يعارض القرآن».
ولا يخفى وهن هذا الكلام… وكم من مورد قد رفعوا اليد فيه عن ظاهر القرآن بخبر واحد!!
ثمّ إنّ عدم كون آزر والداً لسيّدنا إبراهيم عليه السلام ليس قول أهل الحق وحدهم، فقد وافقهم غير واحد من أئمّة المفسّرين، كما ذكر السيوطي في (الدرج المنيفة).
هذا، ويعجبني في هذا المقام كلام شارح (مسلّم الثبوت)، فإنّه مع مرائه التام وتعصّبه الشديد الشائع بين الخاص والعام، أتى بما يجلو صدء الأفهام ويزيح ظلمة الشكوك والأوهام، حيث قال في (فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت):
«وأمّا الواقع، فالمتوارث من لدن آدم عليه السلام أبي البشر إلى نبيّنا ومولانا أفضل الرسل وأشرف الخلق محمّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنّه لم يبعث نبيّ قطّ أشرك بالله طرفة عين، وعليه نصّ الإمام أبو حنيفة رحمه الله في الفقه الأكبر، وفي بعض المعتبرات أنّ الأنبياء عليهم السلام معصومون عن حقيقة الكفر وعن حكمه بتبعيّة آبائهم، وعلى هذا، فلابدّ من أن يكون تولّد الأنبياء بين أبوين مسلمين أو يكون موتهما قبل تولّدهم، لكن الشقّ الثاني قلّما يوجد في الآباء ولا يمكن في الاُمّهات، ومن هاهنا بطل ما نسب بعضهم من الكفر إلى اُمّ سيّد العالم مفخر بني آدم، صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلامه، وذلك لأنّه حينئذ يلزم نسبة الكفر بالتبع، وهو خلاف الإجماع، بل الحقّ الراجح هو الأوّل.
وأمّا الأحاديث الواردة في أبوي سيّد العالم صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلامه، متعارضة مرويّة آحاداً، فلا تعويل عليها في الإعتقاديّات.
وأمّا آزر، فالصحيح أنّه لم يكن أبا إبراهيم عليه السلام بل أبوه تارخ، كذا صحّح في بعض التواريخ، وإنّما كان آزر عمّ إبراهيم عليه السلام وربّاه الله تعالى في حجره، والعرب تسمّي العم الذي ولي لتربية ابن أخيه أباً له، وعلى هذا التأويل قوله تعالى: ( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر )، وهو المراد بما روي في بعض الصحاح أنّه نزل في أبي سيّد العالم صلوات الله عليه: ( ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اُولي قربى من بعد ما تبيّن لهم أنّهم أصحاب الجحيم )، فإنّ المراد بالأب العم، كيف لا؟ وقد وقع صريحاً في صحيح البخاري أنّه نزل في أبي طالب. هذا.
وينبغي أن يعتقد أنّ آباء سيّد العالم ـ صلّى الله عليه وآله وأصحابه وسلّم ـ من لدن أبيه إلى آدم كلّهم مؤمنون، وقد بيّن السيوطي بوجه أتم»(11) إنتهى.
(1) سورة الشعراء 26:218 ـ 219 .
(2) سورة التوبة 9:28 .
(3) سورة التوبة 9:114 .
(4) سورة التوبة 9:114 .
(5) تفسير الرازي 13:38 ـ 40 .
(6) سورة الأنعام 6:74 .
(7) سورة مريم 19:42 .
(8) أسرار التنزيل للفخر الرازي : 296 ـ 272 ، الباب الثاني ، الفصل الأوّل .
(9) رسالة الرازي في ترجيح مذهب الشافعي ـ المسألة الرّابعة .
(10) أسرار التنزيل : 272 ، الباب الثاني ، الفصل الأوّل .
(11) فواتح الرحموت ـ شرح مسلّم الثبوت ـ على هامش المستصفى 2 : 98 .