تصريح الرازي بعقيدة الجبر
ونصّ الفخر الرازي على عقيدة الجبر، قال بصحّتها ودافع عنها، بتفسير قوله تعالى: ( لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذانٌ لا يسمعون بها ) قال:
«احتجّ أصحابنا بهذه الآية على صحّة قولهم في خلق الأعمال فقالوا: لا شكّ أنّ أولئك الكفّار كانت لهم قلوب يفقهون بها مصالحهم المتعلّقة بالدنيا، ولاشكّ أنّه كانت لهم أعين يبصرون بها المرئيّات، وآذانٌ يسمعون بها الكلمات، فوجب أن يكون المراد من هذه الآية تقييدها بما يرجع إلى الدين، وهو أنّهم ما كانوا يفقهون بقلوبهم ما يرجع إلى مصالح الدين، وما كانوا يبصرون ويسمعون ما يرجع إلى مصالح الدين، وإذا ثبت هذا فنقول: ثبت أنّه تعالى كلّفهم بتحصيل الدين، مع أنّ قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم ما كانت صالحة لذلك، وهو يجري مجرى المنع عن الشيء والصدّ عنه مع الأمر به، وذلك هو المطلوب.
قالت المعتزلة: لو كانوا كذلك لقبح من الله تكليفهم، لأنّ تكليف من لا قدرة له على الفعل قبيح غير لائق بالحكيم، فوجب حمل الآية على أنّ المراد منه: أنّهم ـ لكثرة الإعراض عن الدلائل وعدم الإلتفات إليها ـ صاروا مشبّهين بمن لا يكون له قلب فاهم ولا عين باصرة ولا اُذن سامعة.
والجواب: إنّ الإنسان إذا تأكّدت نفرته عن شيء، صارت تلك النفرة المتأكّدة الراسخة مانعة له عن فهم الكلام الدالّ على صحّة الشيء، ومانعة عن إبصار محاسنه، ومانعة له عن سماع محاسنه وفضائله، وهذه حالة وجدانيّة ضروريّة يجدها كلّ عاقل من نفسه، ولهذا السبب قالوا في المثل المشهور: حبّك الشيء يعمي ويصمّ، وإذا ثبت هذا فنقول: إنّ أقواماً من الكفّار بلغوا في عداوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وفي بغضه وفي شدّة النفرة عن قبول دينه والإعتراف برسالته، هذا المبلغ وأقوى منه، والعلم الضروري حاصل بأنّ حصول الحبّ والبغض في القلب ليس باختيار الإنسان، بل هو حالة حاصلة في القلب، شاءه الإنسان أم كرهه.
إذا ثبت هذا فنقول: ظهر أنّ حصول هذه العداوة والنفرة في القلب ليس باختيار العبد، وثبت أنّه متى حصلت هذه النفرة والعداوة في القلب، فإنّ الإنسان لايمكنه ـ مع تلك النفرة الراسخة الشديدة ـ تحصيل الفهم والعلم، وإذا ثبت هذا ثبت القول بالجبر لزوماً لا محيص عنه. ونقل عن أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه خطبة في تقرير هذا المعنى، وهو في غاية الحسن:
روى الشيخ أحمد البيهقي في كتاب مناقب الشافعي رحمة الله عليه، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنّه خطب الناس فقال: وأعجب ما في الإنسان قلبه، فيه موادّ من الحكمة وأضدادها، فإن سنح له الرجاء أولهه الطمع، وإن هاج له الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتدّ به الغيظ، وإن أسعد بالرضى نسي التحفّظ، وإن ناله الخوف شغله الحزن، وإن أصابته المصيبة قتله الجزع، وإن وجد مالاً أطغاه الغنى، وإن عضّته فاقة شغله البلاء، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف، فكلّ تقصير به مضرّ، وكلّ إفراط له مهلك.
وأقول: هذا الفصل في غاية الجلالة والشرف، وهو كالمطلع على سرّ مسألة القضاء والقدر، لأنّ أعمال الجوارح مربوطة بأعمال القلوب، وكلّ حالة من أحوال القلب فإنّها مستندة إلى حالة اُخرى حصلت، وإذا وقف الإنسان على هذه الحالة علم أنّه لا خلاص من الإعتراف بالجبر.
وذكر الشيخ الغزالي رحمه الله في كتاب الإحياء فصلاً في تقرير مذهب الجبر…»(1).
(1) تفسير الرازي 15 : 63 ـ 64 .