الأقوال والأدلّة كما ذكر ابن حجر
لكنّ القوم في حكم المسألة مختلفون، فعندهم قول بالجواز مطلقاً، وهو المحكي عن أحمد وأبي حنيفة وجماعة… قال ابن حجر في (فتح الباري):
«وأمّا المؤمنون فاختلف فيه:
فقيل: لا يجوز إلاّ على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خاصّة; حكي عن مالك كما تقدّم.
وقالت طائفة: لا يجوز مطلقاً استقلالاً ويجوز تبعاً فيما ورد به النصّ أو اُلحق به، لقوله تعالى: ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً )، ولأنّه لمّا علّمهم السلام قال: السلام علينا وعلى عباده الصالحين، ولمّا علّمهم الصلاة قصّر عليه وعلى أهل بيته; وهذا القول اختاره القرطبي في المفهم وأبوالمعالي من الحنابلة، وقد تقدّم في تفسير سورة الأحزاب، وهو اختيار ابن تيميّة من المتأخّرين.
وقال طائفة: يجوز مطلقاً، وهو مقتضى صنيع البخاري، فإنّه صدّر بالآية وهو قوله تعالى: ( وَصَلِّ عليهم )، ثمّ علّق الحديث الدالّ على الجواز مطلقاً، وعقّبه بالحديث الدالّ على الجواز تبعاً:
فأمّا الأوّل، وهو حديث عبدالله بن أبي أوفى، فتقدّم شرحه في كتاب الزكاة، ووقع مثله عن قيس بن سعد بن عبادة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رفع يديه وهو يقول: اللّهمّ اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة; أخرجه أبو داود والنسائي، وسنده جيّد.
وفي حديث جابر: إنّ امرأته قالت للنبي صلّى الله عليه وسلّم: صلّ علَيّ وعلى زوجي، ففعل; أخرجه أحمد مطوّلاً ومختصراً، وصحّحه ابن حبّان.
وهذا القول جاء عن الحسن ومجاهد، ونصّ عليه أحمد في رواية أبي داود، وبه قال إسحاق وأبو ثور وداود والطبري، واحتجّوا بقوله تعالى: ( هو الذي يصلّي عليكم وملائكته ).
وفي صحيح مسلم، من حديث أبي هريرة مرفوعاً: إنّ الملائكة تقول لروح المؤمن: صلّى الله عليك وعلى جسدك.
وأجاب المانعون عن ذلك كلّه: بأنّ ذلك صدر من الله ورسوله، ولهما أن يخصّا من شاءا بما شاءا، وليس ذلك لأحد غيرهما.
وقال البيهقي: يحمل قول ابن عبّاس بالمنع إذا كان على وجه التعظيم، لا ما إذا كان على وجه الدعاء بالرحمة والبركة.
وقال ابن القيّم: المختار أن يصلّى على الأنبياء والملائكة وأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم وآله وذرّيّته وأهل الطاعة، على سبيل الإجمال، ويكره ـ في غير الأنبياء ـ لشخص مفرد بحيث يصير شعاراً، ولاسيّما إذا ترك في حقّ مثله أو أفضل منه كما يفعله الرافضة، فلو اتّفق وقوع ذلك منفرداً في بعض الأحايين، من غير أن يتّخذ شعاراً، لم يكن به بأس، ولهذا لم يرد في حقّ غير من أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقول ذلك لهم، وهم من أدّى زكاته إلاّ نادراً، كما في قصّة زوجة جابر وآل سعد بن عبادة»(1).
بل لقد وضعوا في ذلك حديثاً، رواه المحبّ الطبري في (الرياض النضرة):
«عن يخامر السكسكي: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: اللّهمّ صلّ على أبي بكر، فإنّه يحبّك ويحبّ رسولك، اللّهمّ صلّ على عمر، فإنّه يحبّك ويحبُّ رسولك، اللّهمّ صلّ على عثمان، فإنّه يحبّك ويحبّ رسولك، اللّهمّ صلّ على أبي عبيدة بن الجرّاح، فإنّه يحبّك ويحبّ رسولك، اللّهمّ صلّ على عمرو بن العاص، فإنّه يحبّك ويحبّ رسولك.
أخرجه الخلعي»(2).
وهو حديث موضوع قطعاً، لوجوه:
منها: عدم ذكر أميرالمؤمنين عليه السلام فيه.
ومنها: ما ثبت من كون «عمرو بن العاص» مطعوناً في دينه، حتّى اعترف بذلك الدهلوي في (التحفة) وكان ملعوناً على لسان النبي الاُمّي:
قال الحافظ أبو يعلى في (مسنده):
«ثنا علي بن المنذر، ثنا ابن فضيل، ثنا يزيد بن أبي زياد، عن سليمان ابن عمرو بن الأحوص، عن أبي برزة قال: كنّا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فسمع صوت غناء فقال: اُنظروا ما هذا؟ فصعدت فنظرت، فإذا معاوية وعمرو بن العاص يغنّيان، فجئت فأخبرت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: اللّهمّ أركسهما في الفتنة ركساً، اللّهمّ دعّهما إلى النّار دعّاً»(3).
وأخرجه أحمد في (مسنده) عن عبدالله بن محمّد عن أبي فضيل…(4).
وقال الطبراني في (المعجم الكبير):
«ثنا أحمد بن علي بن الجارود الأصبهاني، ثنا عبدالله بن سعيد الكندي، ثنا عيسى بن الأسود النخعي، عن ليث بن طاووس، عن ابن عبّاس قال: سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم صوت رجلين يغنّيان وهما يقولان…
فسأل عنهما فقيل له: معاوية وعمرو بن العاص.
فقال: اللّهمّ أركسهما في الفتنة ركساً ودعّهما إلى النّار دعّاً»(5).
هذا، مع ماله من المطاعن الكثيرة، ككونه من المؤلّبين على عثمان(6) وكمواقفه من أمير المؤمنين عليه السلام في صفين.
وهو أيضاً مطعون في نسبه….
فالحديث المذكور موضوع قطعاً…
وكذلك سائر الأحاديث الاخرى الواردة في كتبهم في مدحه(7).
(1) فتح الباري في شرح البخاري 11 : 142/ باب هل يصلّى على غير النبي ؟
(2) الرياض النضرة 1 : 229 ـ 230/59 الباب الثالث .
(3) مسند أبي يعلى 13 : 429 ـ 430/7436 ، وفيه : «فلان وفلان» !!
(4) مسند أحمد بن حنبل 5 : 580/19281 ، وفيه : «فلان وفلان» !!
(5) المعجم الكبير 11 : 38/10970 ، وفيه التصريح باسمهما .
(6) الاستيعاب ، بترجمته 3:1187 ، وانظر ترجمة محمد بن أبي حذيفة ، وعبد الله بن أبي سرح .
(7) كنز العمّال 13:548 .