الأقوال في تأويل خبر : ولد الزنا لا يدخل الجنّة
قال السيوطي في (اللآلي المصنوعة):
«قال الرافعي في تاريخ قزوين: رأيت بخط الإمام أبي الخير أحمد بن إسماعيل الطالقاني: سألني بعض الفقهاء في المدرسة النظامية ببغداد في جمادى الاُولى سنة 576 عمّا ورد في الخبر أنّ ولد الزنا لا يدخل الجنّة، وهناك جمع من الفقهاء، فقال بعضهم: هذا لا يصحّ ( ولا تزر وازرة وزر اُخرى ) وذكر أنّ بعضهم قال في معناه: إنّه إذا عمل عمل أصليه وارتكب الفاحشة لا يدخل الجنّة، وزُيّف ذلك بأنّ ذلك لا يختصّ بولد الزنا بل حال ولد الرشيدة مثله.
ثمّ فتح الله علَيّ جواباً شافياً لا أدري هل سبقت إليه، فقلت: معناه أنّه لا يدخل الجنّة بعمل أصليه، بخلاف ولد الرشيدة، فإنّه إذا مات طفلاً وأبواه مؤمنان اُلحق بهما وبلغ درجتهما بصلاحهما، على ما قال تعالى: ( والذين آمنوا واتّبعتهم ذرّيّاتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرّيّاتهم ) وولد الزنا لا يدخل الجنّة بعمل أبويه. أمّا الزاني فنسبه منقطع، وأمّا الزانية فشؤم زناها ـ وإنْ صلحت ـ يمنع من وصول بركة صلاحها إليه»(1).
والآية الكريمة في نسخة اللآلي كما نقلت.
أقول :
لكنّ تأويل أبي الخير الطالقاني أيضاً لا يخلو من ضعف، لأنّ صريح تلك الأحاديث أنّ ولد الزنا لا يدخل الجنّة، وأنّه محروم منها، كما يدلّ عليه أيضاً تشريكه مع العصاة والمجرمين، وكما يدلّ على ذلك عدم دخول ولد الزنا الجنّة ولا ولده ولا ولد ولده إلى ثلاثة بل إلى خمسة بل إلى سبعة، فالقول بأنّه لا يدخل الجنّة بعمل أصليه، إنْ اُريد منه أنّ عملهما هو السبب في عدم دخوله الجنّة فالإشكال باق على حاله، وإنْ اُريد منه أنّه غير محروم من الجنّة، بل يدخلها لكنْ لا بعمل أبويه، فهو مخالفٌ لصريح الأحاديث.
ثمّ إنّ هذا التأويل لا يفيد في حديث أبي هريرة: إنّ ولد الزنا شرّ الثلاثة. وكذا بالنظر إلى حديث عبدالله بن عمرو بن العاص وكلام سعيد بن جبير من أنّه مخلوق للنّار، بل يردّه حديث ميمونة، العام الصريح في سلب الخير من ولد الزنا… وكذا فتوى أبي حنيفة بأنّ خبث الولادة عيب في المبيع.
ومنهم من تأوّل هذه الأحاديث: بأنّ المراد من ولد الزنا فيها، هو من واظب على الزنا والتزم به، كما يقال للشجعان: بنو الحرب، ولأولاد المسلمين: بنو الإسلام…
ذكره عبدالحق الدهلوي في (شرح سفر السّعادة) عن بعض العلماء.
وهو ضعيف لوجوه، منها: أنه لا يمكن أن يحمل عليه ما ورد من تلك الأحاديث بلفظ: لا يدخل الجنّة ولد الزنا ولا ولده ولا ولد ولده، وفي بعضها: ولا شيء من نسله إلى سبعة آباء… .
ومنهم من تأوَّل حديث: ولد الزنا شرّ الثلاثة بقوله: «لأنّ الحدّ قد يقام عليها فتكون العقوبة لهما، وهذا في علم الله لا يدرى ما يصنع به وما يفعل في ذنوبه».
أورده السيوطي في (مرقاة الصعود ـ حاشية سنن أبي داود) عن بعضهم.
وفيه ضعف من وجوه كثيرة:
منها: احتمال أن يتوب ولد الزنا ولا يتوب والداه، فيكون خيراً منهما.
ومنها: أنّ مجرّد عدم العلم بما يفعله الله فيه لا يقتضي كونه شرّاً منهما.
ومنها: إنّه لا يجري في سائر الأحاديث الواردة في عدم دخول ولد الزنا الجنّة.
ولمّا اُشكل الأمر على بعضهم ، ولم يتمكّن من فهم هذه الأحاديث، عمد إلى تكذيبها، كما في كلام القاري حيث قال: «حديث: ولد الزنا لا يدخل الجنّة، لا أصل له»(2).
لكن القول بأنّه «لا أصل له» لا يستلزم عدم تخريج أحد من المحدّثين للحديث، ولو تمّ الاستلزام المذكور لزم تكذيب جميع العلماء الذين صرّحوا بوقوع الإختلاف في الأحاديث، والحال أنّ وقوع الإختلاف في الأحاديث أمر واضح كالشمس في رابعة النهار، كما لا يخفى على من راجع كتب الحديث، لاسيّما شروح الصحاح وأمثالها من الأسفار… وما أكثر الأحاديث التي قيل بأنْ لا أصل لها، مع وجود روايات القوم لها بأسانيدهم… كما لا يخفى على من راجع (اللآلي المصنوعة) وأمثاله، بل قلّما تجد حديثاً ممّا أدرجه ابن الجوزي في (الموضوعات) لم يروه إمام كبيرٌ من أئمّة الحديث عندهم.
إنّ الإختلاف بينهم في الأحاديث التي يروونها ممّا يعلمه أقلّ الطلبة… حتّى أنّه ليعلم وقوع الإختلاف في أحاديث كتابي البخاري ومسلم المعروفين بالصحيحين أيضاً… فإنّ ذلك مذكور في سائر الكتب، وحتى في الكتب الدرسيّة مثل (فواتح الرحموت في شرح مسلّم الثبوت) فإنّه قال:
«فرع ـ إبن الصلاح وطائفة من الملقَّبين بأهل الحديث زعموا أنَّ رواية الشيخين محمّد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج صاحبي الصحيحين يفيد العلم النظري، للإجماع على أنّ للصحيحين مزيّةً على غيرهما، وتلقّت الاُمّة بقبولهما، والإجماع قطعي.
وهذا بهت، فإن من راجع إلى وجدانه يعلم بالضرورة أنّ مجرّد روايتهما لا يوجب اليقين ألبتة، وقد روي فيهما أخبار متناقضة، فلو أفاد روايتهما علماً لزم تحقق النقيضين في الواقع.
وهذا ـ أي ما ذهب إليه ابن الصلاح وأتباعه ـ بخلاف ما قاله الجمهور من الفقهاء والمحدّثين، لأن انعقاد الإجماع على المزيّة على غيرهما من مرويّات ثقات آخرين ممنوع، والإجماع على مزيّتهما في أنفسهما لا يفيد، ولأن جلالة شأنهما وتلقّي الاُمّة بكتابيهما ـ لو سلّم ـ لا يستلزم ذلك القطع والعلم، فإن القدر المسلّم المتلقّى بين الاُمة ليس إلاّ أنّ رجال مرويّاتهما جامعة للشروط التي اشترطها الجمهور لقبول روايتهم، وهذا لا يفيد إلاّ الظن، وأمّا أن مرويّاتهما ثابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلا إجماع عليه أصلاً، كيف؟ ولا إجماع على صحّة جميع ما في كتابيهما، لأن رواتهما فهم قدريّون وغيرهم من أهل البدع، وقبول رواية أهل البدع مختلف فيه، فأين الإجماع على صحّة مرويّات القدريّة، غاية ما يلزم أنّ أحاديثهما أصحّ الصحيح، يعني إنّها مشتملة على الشروط المعتبرة عند الجمهور على الكمال، وهذا لا يفيد إلاّ الظن القوي. هذا هو الحق المتّبع»(3).
(1) اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة 2 : 194 .
(2) الأسرار المرفوعة في الأحاديث الموضوعة : 362/575 .
(3) فواتح الرحموت ـ شرح مسلم الثبوت 2 : 123 .