ابن تيميّة وابن القيّم
فابن تيميّة، قد ثبت عنه القول بذلك:
قال ابن حجر المكي في (أشرف الوسائل في شرح الشمائل) في ذكر إرخاء العمامة على الكتفين:
«قال ابن القيّم عن شيخه ابن تيميّة إنّه ذكر شيئاً بديعاً وهو: أنّه صلّى الله عليه وسلّم لمّا رأى ربّه واضعاً يده بين كتفيه أكرم ذلك الموضع بالعذبة.
قال العراقي: ولم نجد لذلك أصلاً، بل هذا من قبيل رأيهما وضلالهما، إذ هو مبني على ما ذهبا إليه وأطالا في الاستدلال له والحطّ على أهل السنّة في نفيهم له، وهو إثبات الجهة والجسميّة لله، تعالى عمّا يقول الظالمون والجاحدون علوّاً كبيراً، ولهما في هذا المقام من القبائح وسوء الإعتقاد ما يصمّ عنه الآذان ويقضى عليه بالزور والكذب والضلال والبهتان، قبّحهما الله وقبّح من قال بقولهما، والإمام أحمد وأجلاّء مذهبه مبرّؤون عن هذه الوصمة القبيحة، كيف وهي كفر عند كثيرين».
وقال الجلال الدواني في (شرح عقائد العضدي):
«ولابن تيميّة أبي العبّاس أحمد وأصحابه ميل عظيم إلى إثبات الجهة ومبالغة في القدح في نفيها، ورأيت في بعض تصانيفه أنّه لا فرق عند بديهة العقل بين أن يقال هو معدوم أو يقال طلبته في جميع الأمكنة فلم أجده، ونسب النافين إلى التضليل، هذا مع علوّ كعبه في العلوم النقليّة والعقليّة كما يشهد به من تتبّع تصانيفه».
وقال المفتي صدر الدين، وهو من أكابر فضلاء السنة في الهند في رسالته (منتهى المقال) التي قرّظها علماؤهم بتقريظات عديدة:
«قال شيخ الاُمّة الهمام، سند المحدّثين الشيخ محمّد البريسي، في كتابه إتحاف أهل العرفان برؤية الأنبياء والملائكة والجان: قد تجاسر ابن تيميّة الحنبلي ـ عامله الله تعالى بعدله ـ وادّعى أنّ السفر لزيارة قبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حرام، وإنّ الصلاة لا تقصر فيه لعصيان المسافر به، وأطال في ذلك بما تمجّه الأسماع وتنفر منه الطباع، وقد عاد شؤم كلامه عليه حتّى تجاوز الجناب الأقدس المستحق لكلّ كمال أنفس وخرق سياج الكبرياء والجلال، وحاول إثبات منافي العظمة والكمال، بادّعائه الجهة والتجسيم ونسبة من لم يعتقدهما إلى الضلالة والتأثيم، وأظهر هذا الأمر على المنابر وشاع وذاع ذكره بين الأكابر والأصاغر، وخالف الأئمة المجتهدين في مسائل كثيرة، استدرك على الخلفاء الراشدين باعتراضات سخيفة حقيرة، فسقط من أعين علماء الاُمّة وصار مثلة بين العوام فضلاً عن الأئمة، وتعقّب العلماء كلماته الفاسدة وزيّفوا حججه الداحضة الكاسدة، وأظهروا عور سقطاته وبيّنوا قبائح أوهامه وغلطاته».
وهذه بعض الجُمل الواردة في المنشور السلطاني في ابن تيمية:
«وكان الشقي ابن تيميّة في هذه المدّة قد بسط لسان قلمه ومدَّ عنان كلمه وتحدّث في مسائل القرآن والصفات، ونصّ في كلامه على اُمور منكرات، وتكلّم فيما سكت عنه الصحابة والتابعون، وفاه بما يمجّه السلف الصالحون، وأتى في ذلك بما أنكره أئمّة الإسلام، وانعقد على خلافه إجماع العلماء الأعلام، واشتهر من فتاواه في البلاد ما استخفّ به عقول العوام، وخالف في ذلك علماء عصره وفقهاء شامه ومصره، وبعث رسائله إلى كلّ مكان، وسمّى كتبه أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، ولمّا اتّصل بنا ذلك من سلكه من هذه المسالك وأظهروه من هذه الأحوال وأشاعوه، وعلمنا أنّه استخفّ قومه فأطاعوه، حتّى اتّصل بنا أنّهم صرّحوا في حقّ الله بالحرف والصوت والتجسيم، فقمنا في حقّ الله تعالى مشفقين من هذا النبأ العظيم».
إلى آخر المنشور الطويل، المثير لأوليائه العويل، الهادم لأساس فخرهم الجزيل ومجدهم الأثيل.
بل قال ابن تيمية بقدم العرش، فأثبت للباري شريكاً في الأزليّة، كما ذكر الدوّاني في (شرح العقائد) بذكر القدم الجنسي للعالم:
«وقد قال به بعض المحدّثين المتأخّرين، وقد رأيت في بعض تصانيف ابن تيميّة القول به في العرش».
وقال المولوي عبدالحليم ـ من علماء الهند ـ في حاشية شرح العقائد المسماة (حلّ المعاقد):
«كان تقيّ الدين ابن تيميّة حنبليّاً، لكنّه تجاوز عن الحدّ وحاول إثبات ما ينافي عظمة الحقّ تعالى وجلاله، فأثبت له الجهة والجسم، وله هفوات اُخر كما يقول: إنّ أميرالمؤمنين سيّدنا عثمان رضي الله عنه كان يحبّ المال، وإنّ أميرالمؤمنين سيّدنا علي رضي الله عنه ما صحّ إيمانه فإنّه آمن في حال صباه، وتفوّه في حقّ أهل بيت النبيّ صلّى الله عليه وعليهم ما لا يتفوّه به المؤمن المحقّ، وقد ورد الأحاديث الصحاح في مناقبهم في الصحاح.
وانعقد مجلس في قلعة حبل، حضر العلماء الأعلام والفقهاء العظام، ورئيسهم كان قاضي القضاة زين الدين المالكي، وحضر ابن تيميّة، فبعد القيل والقال، بهت ابن تيميّة وحكم قاضي القضاة بحبسه، وكان ذلك سنة سبع مائة وخمس من الهجرة، ثمّ نودي بدمشق وغيره: من كان على عقيدة ابن تيميّة حلَّ ماله ودمه; كذا في مرآة الجنان للإمام أبي محمّد عبدالله اليافعي، ثمّ تاب وتخلّص من السجن سنة سبع مائة وسبع من الهجرة وقال: إنّي أشعريّ، ثمّ نكث عهده وأظهر مكنونه ومرموزه، فحبس حبساً شديداً مرّة ثانية، ثمّ تاب وتخلّص من السجن وأقام في الشام، وله هناك واقعات كتبت في كتب التواريخ.
وردّ أقاويله وبيّن أحواله الشيخ ابن حجر في المجلّد الأوّل من الدرر الكامنة، والذهبي في تاريخه، وغيرهما من المحقّقين.
هذا كلام وقع في البين. والمرام أنّ ابن تيميّة لمّا كان قائلاً بكونه تعالى جسماً قال بأنّه ذو مكان، فإنّ كلّ جسم لابدّ له من مكان على ما ثبت، ولما ورد في الفرقان الحميد ( الرحمن على العرش استوى ) قال: إنّ العرش مكانه، ولمّا كان الواجب أزليّاً عنده وأجزاء العالم حوادث عنده، فاضطرّ إلى القول بأزليّة جنس العرش وقدمه وتعاقب أشخاصه الغير المتناهية، فمطلق التمكّن له تعالى أزليّ، والتمكّنات المخصوصة حوادث عنده، كما ذهب المتكلّمون إلى حدوث التعلّقات».
وهذا نصّ كلام الحافظ ابن حجر بترجمة ابن تيمية من (الدرر الكامنة):
«وافترق الناس فيه شيعاً:
فمنهم: من نسبه إلى التجسيم، لما ذكر في العقيدة الحموية والواسطيّة وغيرهما من ذلك بقوله: إنّ اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقيّة لله، وإنّه مستو على العرش بذاته، فقيل له: يلزم من ذلك التحيّز والإنقسام، فقال: أنا لا أسلّم إنّ التحيّز والإنقسام من خواصّ الأجسام، فاُلزم بأنّه يقول بالتحيّز في ذات الله.
ومنهم: من ينسبه إلى الزندقة، لقوله إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يستغاث به، وإنّ في ذلك تنقيصاً ومنعاً من تعظيم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان أشدّ النّاس عليه في ذلك النور البكري، فإنّه لمّا عُقِدَ له المجلس بسبب ذلك قال بعض الحاضرين: يعزّر، فقال البكري: لا معنى لهذا القول، فإنّه إن كان تنقيصاً يقتل، وإن لم يكن تنقيصاً لا يعزّر.
ومنهم: من ينسبه إلى النفاق، لقوله في عليّ ما تقدّم، ولقوله إنّه كان مخذولاً حيث ما توجّه، وإنّه حاول الخلافة مراراً فلم ينلها، وإنّما قاتل للرياسة لا للديانة، ولقوله: إنّه كان يحبّ الرياسة، وإنّ عثمان كان يحبّ المال، ولقوله: أبوبكر أسلم شيخاً يدري ما يقول، وعليّ أسلم صبيّاً والصبيّ لا يصحّ إسلامه على قول، ولكلامه في قصّة خطبة بنت أبي جهل وما نسبه من الثناء على قصّة أبي العاص بن الربيع وما يؤخذ من مفهومها، فإنّه شنّع في ذلك فألزموه بالنفاق لقوله صلّى الله عليه وسلّم: لا يبغضك إلاّ منافق.
ونسبه قوم إلى أنّه يسعى في الإمامة الكبرى، فإنّه كان يلهج بذكر ابن تومرت ويطريه، فكان ذلك مولّداً لطول سجنه وله وقائع شهيرة، وكان إذا حوقق واُلزم يقول لم أرد هذا إنّما أردت كذا، فيذكر احتمالاً بعيداً»(1).
(1) الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 1 : 155 ـ 156 .