وجوه الجواب عنه
وقد اُجيب عن هذا الإشكال(1) :
بأنّ مقتضى أدلّة الإفتاء والاستفتاء هو تنزيل المجتهد منزلة المقلّد ، فإذا قامت الأمارة عنده تحقق القيام لها عند المقلّد ، وكذلك الحال في الشك واليقين ، فيقين المجتهد وشكّه بمنزلة يقين المقلّد وشكّه ، وإلاّ لكان الحكم بجواز الإفتاء والاستفتاء لغواً .
وقرّبه السيّد الصّدر بقوله :
أي : تنزيل حال المجتهد منزلة حال العامّي ، ففحصه بمنزلة فحص العامي ، وكذلك يقينه بالحالة السابقة أو بالمعلوم الإجمالي ينزّل منزلة يقين العامي ، فتشمله حينئذ الوظائف المقرّرة التي انتهى إليها المجتهد لا محالة . نعم ، بالنسبة إلى الوظائف العقلية كقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، أو منجزيّة العلم الإجمالي ، لابدّ وأنْ يفترض جعل حكم مماثل لحكم العقل ، بحيث ينتج البراءة والإحتياط الشرعيين في حقّ العامي ، لأن التنزيل بلحاظ الحكم العقلي غير معقول كما هو واضح .
وأمّا كيفيّة استفادة ذلك إثباتاً ، فببيان : أن المركوز في أذهان المتشرّعة والمتفاهم من أدلّة التقليد رجوع العامي إلى المجتهد ، ليطبّق على نفسه نفس ما يطبّقه المجتهد على نفسه ، بحيث يثبت في حقّه نفس ما يثبت في حقّ المجتهد من درجات إثبات الواقع أو التنجيز والتعذير عنه لا أكثر ، وهذا لا يكون إلاّ مع فرض التنزيل المذكور ، فيستكشف من دليل التقليد ـ لا محالة ـ ثبوت هذا التنزيل والتوسعة في موضوع من تلك الوظائف الظاهرية بالدلالة الالتزاميّة(2) .
أقول :
إلاّ أنّ هذا الجواب غير تام ، لعدم الدليل على التنزيل المذكور في اليقين والشك ، واللّغويّة غير لازمة ، لأنّ المجتهد قد يكون غنيّاً فيتوجّه عليه الحكم بالخمس ، ويكون مستطيعاً فيجب عليه الحج ، فما ذكر من أن لدليل التنزيل دلالة اقتضائيّة كما في قوله عزّ وجلّ ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ )(3) حيث يلزم تقدير كلمة « الأهل » حتى لا تلزم اللّغوية في الآية ، غير جار فيما نحن فيه ، لأنّ اللّغوية في الآية لازمة لولا التقدير المذكور ، بخلاف أدلّة الإفتاء والإستفتاء ، فإنه لا تلزم اللّغوية لها بنفي التنزيل ، لما ذكرنا من أن المجتهد قد يكون غنيّاً ومستطيعاً .
وأمّا دعوى قيام السيرة العقلائيّة على ذلك ، فعهدتها على مدّعيها ، ولا أقلّ من الشك ، والقدر المتيقن من التنزيل غير ما نحن فيه .
واُجيب عنه أيضاً :(4)
بأنّه إن كان المقلّد ملتفتاً إلى الحكم فهو ذو يقين وشك به ، كان المجتهد بالخيار في إجراء الاستصحاب ، فله أن يجريه بلحاظ يقين وشك مقلّده أو يقين وشك نفسه ، فإذا علم بالحكم أفتى به ورجع إليه المقلّد فيه ، إذ لا ينحصر رجوع الجاهل إلى العالم بحال كونه عالماً به عن قطع أو أمارة .
وإنْ كان المقلّد غير ملتفت إلى الحكم، أجرى المجتهد الإستصحاب بلحاظ يقينه وشكّه بحال المرأة الحائض مثلاً ، إذ لا مانع من حصول اليقين لشخص بحكم شخص آخر ، وهو يتابعه من باب رجوع الجاهل إلى العالم .
وقد أشكل عليه شيخنا دام بقاه :
بأنه يعتبر في جريان الأصل وجود الموضوع ـ أي اليقين والشك ـ وفعليّة الحكم بالنسبة إليه ، والمفروض هنا عدم ابتلاء المجتهد بالحكم أو عدم فعليّته بالنسبة إليه ، فلا يصحُّ له إجراء الاستصحاب وإنْ توفّر الموضوع لديه … وبعبارة اخرى : فإنّ هذا الجواب مشتملٌ على المصادرة ، لأن الإشكال كان من ناحية عدم فعليّة التكليف للمجتهد أو عدم ابتلائه به .
وأجيب عنه أيضاً(5) :
قد يقرّب تخريج عمليّة الإفتاء في موارد الوظائف الظاهريّة على القاعدة حتى على فرض اختصاصها بالمجتهد ، بأنّ الحكم الظاهري وإنْ كان مختصّاً بالمجتهد لتحقّق موضوعه فيه دون المقلّد ، ولكنه بذلك يصبح عالماً بالحكم الواقعي المشترك بين المجتهد والمقلّد تعبّداً ، فيكون حاكماً على دليل الإفتاء بالعلم والخبرة بمقتضى دليل التعبّدية فيفتي المجتهد مقلّديه بالحكم الواقعي المعلوم لديه بهذا العلم ، وهذا أمر على القاعدة لا يحتاج فيه إلى عناية زائدة بعد فرض دلالة دليل الحجيّة والعلمية التعبّدية .
أقول :
لكنّ هذا الجواب أيضاً لا يحلّ المشكلة في الاستصحاب ـ كما مثّلنا ـ لو كان مجدياً في غيره .
(1) نهاية الأفكار ق 1 ج 3 ص 3 . نهاية الاصول 3 / 14 .
(2) بحوث في علم الاصول 4 / 13 ـ 14 .
(3) سورة يوسف : 12 .
(4) مصباح الاصول 2 / 8 .
(5) بحوث في علم الاصول 4 / 11 .