هل يمكن أخذ القطع بالحكم في موضوع الحكم ؟
أمّا أخذ القطع بالحكم موضوعاً للحكم نفسه ، كأن يقول : إذا قطعت بوجوب الصّلاة فالصّلاة واجبة عليك ، فيستلزم الدور كما ذكر ، لأنّ القطع بالحكم متوقف على الحكم ، توقف المتعلّق على المتعلّق به ، لكنّ الحكم متوقف على القطع توقف الحكم على موضوعه ، فيلزم توقف الحكم على نفسه .
هذا أحد تقريبات الدّور في المقام .
وقد أورد عليه المحقق الإصفهاني(1) بما حاصله : إنّ الموقوف على القطع غير ما يتوقف عليه القطع ، لأنّ ما يتوقف عليه القطع هو الصّورة الذهنية للقطع ، ضرورة أنّ القطع لا يتعلّق بالموجودات الخارجية وإلاّ يلزم انقلاب الذهن خارجاً أو الخارج ذهناً ، وعليه ، فالقطع عارض على الوجود الذهني للحكم ، وما يتوقف عليه القطع هو الوجود الخارجي للحكم ، فحصل التغاير ، فلا دور .
قال سيّدنا الاستاذ : وبنظير هذا البيان يندفع محذور الدّور الذي ذكره في الكفاية(2) في أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر ، وقد ذكره صاحب الكفاية هناك وقرّره ولم يدفعه ، ولأجل ذلك ، لا يمكننا إسناد هذا البيان للدور إلى صاحب الكفاية(3) .
ثم أورد رحمه اللّه(4) تقريبين آخرين ولم يدفعهما :
أحدهما: ما ذكره المحقق الإصفهاني ، و ملخّصه : إن الحكم معلّقاً على القطع تارةً يكون بنحو القضيّة الخارجيّة واخرى بنحو القضيّة الحقيقيّة ، فعلى الأول : بأنْ يحكم المولى على من حصل لديه العلم بالحكم ، ولكن لازمه اللغويّة، لأن الحكم إنما هو لجعل الدّاعي ، ومع علم المكلّف بالحكم لا يكون جعل الحكم في حقّه ذا أثر من هذه الجهة . وعلى الثاني: يلزم الخلف ، إذ مع جعل المولى هذه القضيّة ، أعني ثبوت الحكم عند تحقق العلم به ووصوله إلى المكلّف ، يستحيل أن يتحقّق العلم بالحكم . وما يبتني على أمر محال محال .
والثاني : إن تعليق الحكم في الذهن على العلم به ، يستلزم عدم محركيّته وداعويّته ، وذلك ، لأن المكلّف إذا فرض أنه جزم بثبوت الحكم خارجاً واعتقد بتحقّقه ، فهو يرى أن الحكم موجود في الخارج ، والموجود لا يقبل الوجود والتّحقيق ثانياً . وعليه ، فهو يرى أن ثبوت الحكم عند علمه به محال ، ومعه لا يكون الحكم محرّكاً وداعياً ، إذ الداعويّة تتقوّم بالوصول ، والمفروض أن المكلّف يرى محاليّة ثبوته ، فيستحيل جعله حينئذ . ونتيجة ذلك : إن تعليق الحكم على العلم به أمر ممتنع عقلاً ولا يمكن الالتزام به .
قال : وهذا وجه بسيط لا التواء فيه .
وأيضاً ، يستلزم اجتماع المتقابلين ، لأن الحكم متقدّم طبعاً على القطع المتعلّق به ، لكنه متأخّر عنه لأن المفروض كونه أي القطع ـ موضوعاً له ، فيلزم اجتماع التقدّم والتأخّر في الحكم ، واجتماعهما في الشيء الواحد محال .
ثم إنّ القطع في المثال تارةً مطابق للواقع واخرى مخالفٌ ، فإنْ كان مطابقاً ، لزم المحذوران في الواقع وفي ذهن القاطع ، وإن كان مخالفاً لزم المحذوران في ذهن القاطع الذي هو جاهل بالجهل المركب .
(1) نهاية الدراية 3 / 68 .
(2) كفاية الاصول : 73 .
(3) منتقى الاصول 4 / 87 .
(4) منتقى الاصول 4 / 88 .