نظريّة المحقق العراقي
وللمحقق العراقي هنا كلام نتعرّض له بتوضيح منّا وله مقدّمتان :
الاولى : إن الأحكام العقلية المرتبطة بالأعمال على قسمين :
الحكم العقلي التنجيزي ، كحكمه بقبح معصية المولى ، والمقصود من تنجيزيته عدم قبوله لأيّ تصرّف من الشارع .
والحكم العقلي التعليقي ، وهذا ما يقبل التصرّف منه ، كما في صورة انسداد باب العلم ، حيث أن لنا علماً إجمالياً بأحكام المولى لكنّ باب العلم بها منسدٌّ علينا ، فالعقل يحكم بمتابعة الظنّ من باب ترجيح الراجح على المرجوح وهو الوهم ، فهو يحكم في هذا الظرف بالامتثال الظني إلاّ أن حكمه بذلك معلّق على عدم الردع من الشارع ، فيجب علينا اتّباعه كما في ردعه عن الظن القياسي وإن قلنا بالحكومة .
وفي العلم الإجمالي مسلكان :
فقيل : بأنه موضوع لحكم العقل بالتنجيز واستحقاق العقاب فلا يقبل التصرّف من الشارع .
وقيل : بأن الحكم العقلي في مورد العلم الإجمالي معلّق على عدم التصرّف من الشارع بالترخيص في الارتكاب بجعل الأصل في أطراف الشبهة .
الثانية : إن أساس امتناع اجتماع الضدّين في الأحكام وعدم امكان جعل الحكمين المتضادّين ، هو امتناع اجتماع النقيضين ، لأنّ كلاًّ من الضدّين ملازم لعدم الضدّ الآخر ، فلو اجتمع الضدّان حصل اجتماع الضدّ مع عدمه ، فكان أساس الاستحالة هو التناقض .
هذا ، ويعتبر في التناقض وحدة المرتبة وإلاّ فلا استحالة للاجتماع . مثلاً : العلم بالشيء متأخر عن الشيء ، وكذا الظن ، ومنشأ هذا التأخر هو تفرّع الكاشف على المنكشف ، فذات الكشف متعلّقة بالمنكشف ولا عكس ، فكان العلم بالشيء متأخّراً عن الشيء برهاناً .
وإذا عرفت ذلك نقول : إنه بعد ثبوت الكاشفيّة والطريقيّة الذاتيّة للقطع وسببيّته لحكم العقل التنجيزي بلزوم المتابعة وحسن الطاعة ولتحقّق الحركة نحو المقصود في ظرف تعلّق الغرض الفعلي بتحصيله ، يكون من المستحيل قابلية مثله لتعلّق الردع به ، لأن الرّدع عنه إمّا أن يرجع إلى سلب طريقيته تكويناً، وإمّا أن يرجع إلى المنع عن متابعته والعمل على وفقه تشريعاً .
والأوّل واضح الإستحالة ، لبداهة امتناع سلب ما هو ذاتي الشيء عن الشيء أو إثباته له ، بل ولا يظنّ توهّمه من أحد .
وأمّا الثاني ، فعدم إمكانه أيضاً بالمرحلة الأخيرة واضح ، لما عرفت من أنّ في ظرف انكشاف الواقع وتعلّق الغرض الفعلي بتحصيل المقصود ، تكون الحركة على وفق المقصود قهرية ، بحيث لا يمكن الرّدع عنها إلاّ بسلب جهة كشفه . وأمّا بالنسبة إلى المرحلة الاولى ـ أعني حكم العقل بحسن صرف الإرادة بنحو الطاعة ـ فعدم إمكانه إنما هو من جهة منافاته لحكم العقل التنجيزي بوجوب المتابعة وحسن الطاعة ، لأن مرجع ردعه حينئذ إلى ترخيصه في معصيته وهو ـ كما ترى ـ مما يأبى عنه الوجدان ولا يكاد يصدّقه بعد تصديقه بالخلاف ، لكونه من التناقض في نظر القاطع وإنْ لم يكن كذلك بحسب الواقع .
وعليه ، فلا مجال للمنع عن صحّة الردع بما اُفيد من برهان المناقضة ، لأن المقصود من برهان المناقضة :
إن كان مناقضة ترخيصه مع الحكم الشرعي المحفوظ في الرتبة السّابقة على القطع .
ففيه : إنه لا مناقضة ولا تضادّ بينهما ، بعد كون مرجع ردعه إلى الترخيص في الرتبة اللاّحقة عن القطع ، كيف ؟ وإنه بذلك تختلف الرتبة بين الحكمين ، فترتفع المناقضة والتضادّ من البين .
وإن كان المقصود مناقضته مع الحكم العقلي في الرّتبة المتأخرة عن القطع .
ففيه : إنه مبني على ثبوت تنجيزية حكم العقل بوجوب المتابعة ، لأنه من مبادي المناقضة المزبورة ، وإلاّ فعلى فرض تعليقيّته لا يكاد يبقى مع الردع عنه حكم للعقل بوجوب المتابعة ، كي ينتهي الأمر بينهما إلى مقام المضادّة والمناقضة .
فالعمدة في المنع عن إمكان مجيء الردع هو: إثبات تنجيزية حكم العقل ، ويكفي في إثباته ما ذكرناه من الوجدان وإبائه بحسب الإرتكاز عن إمكان مجيء ردع عن العمل بقطعه ، لكونه ترخيصاً من الشارع في المعصية وترك الطاعة .(1)
(1) نهاية الأفكار ق 1 ج 3 ص 7 ـ 8 .