موافقة السيد الاستاذ للمحقّق العراقي
ووافقه سيّدنا الاستاذ قدّس سرّه ، إذ قال :
وأمّا مناقشة الشيخ ، فيمكن أن يقال في دفعها :
أولاً : بالنقض بمورد الجاهل المركّب المقصر ، فإنه في حال علمه لا يمكن ثبوت احكام الشك له ، ولكنه لا يكون معذوراً في مخالفته للواقع مع أنه قاطع .
وثانياً : بأنه وإن سلّم أن القاطع في حال قطعه لا يمكن إرجاعه إلى أحكام غير القاطع بما هي أحكام لغير القاطع ، لكننا يمكننا أن ندّعي هذا القاطع لا يكون معذوراً لو خالف قطعه الواقع ، وهذا هو المراد من نفي حجيّة قطعه .
بيان ذلك : إن حجيّة القطع ترجع إلى وجوب متابعته ومنجزيّته للواقع لو صادفه ، ومعذريّته لو خالف قطعه الواقع .
فالذي ندّعيه : إن العقل لا يحكم بمعذرية قطع القطاع لو خالف الواقع . وهذا لا محذور فيه أصلاً ، ولا يتنافى مع لزوم متابعة القطع الحاصل بنظر القاطع .
وعليه ، فيكون الكلام في أن الحكم العقلي بمعذرية القطع وعدم استحقاق العقاب على مخالفة الواقع الذي تعلّق القطع بخلافه ، هل هو ثابت لجميع أفراد القطع أم إنه ثابت لبعض الأفراد دون بعض ؟
ولا يخفى أن التشكيك في ذلك يكفي في عدم ثبوت المعذريّة ولا نحتاج إلى إثبات العدم ، وإنما الذي يحتاج إلى الإثبات هو القول بالحجيّة .
ولكن الإنصاف عند ملاحظة حال العقلاء ومعاملاتهم فيما بينهم ومع عبيدهم ـ التي هي الطريق لتشخيص أصل حجيّة القطع في الجملة ـ هو عدم معذوريّة القاطع إذا كان قطعه من غير طريق متعارف ، فمن أمر وكيله بشراء حاجة له بالقيمة السّوقية ، فاشتراها الوكيل بأزيد منها استناداً إلى قطعه بأن الثمن يساوي القيمة السوقية ، لكنه ملتفت إلى أن قطعه غير ناش عن سبب متعارف ، فللموكّل أن لا يعذر وكيله ويعاتبه كما لا يخفى .
وليس هذا أمراً بعيداً بعد التزام الفقهاء بمعاقبة الجاهل المركّب المقصّر في اصوله وفروعه ، وليس ذلك إلا لعدم كون قطعه معذراً ، بعد تقصيره في المقدّمات التي تسبب القطع .
وبعد التزام الشيخ بأن التقصير المسبب للنسيان يمكن أن يستلزم العقاب على المنسي لولا حديث الرفع الراجع إلى نفي وجوب التحفظ ، مع أنه لا حكم للناسي في حال نسيانه ، ولا يمكن مخاطبته بأحكام الملتفت .
وبالجملة : عدم إمكان إثبات حكم للقاطع ينافي ما قطع به في حال قطعه ، لا يتنافى مع عدم حجيّة القطع ، بمعنى عدم كونه معذوراً لو انكشف أن قطعه مخالف للواقع ، إذ عدم المعذورية إنما يحكم به بعد زوال القطع ، فلا محذور فيه .
ومن هنا يظهر : أنه يمكن تصحيح دعوى الأخباريين الراجعة إلى نفي حجيّة القطع ـ هذا مما احتمله الشيخ في مراد الأخباريين ، فراجع صدر كلامه ـ بإرجاعها إلى نفي معذورية القطع الحاصل من غير الكتاب والسنّة ، وهي دعوى لا بأس بها ، إذ بعد ورود الروايات الكثيرة الدالّة على أن الدّين لا يصاب بالعقول ، وكثرة وقوع الخطأ في الأحكام إذا كانت مدركة من طريق العقل ، لا يحكم العقل والعقلاء بمعذوريّة القاطع من غير طريق الكتاب والسنّة ، بل يعدّونه مقصّراً في المقدمات فيصح عقابه . وإن لم يمكن نفي وجوب الإطاعة في حال قطعه . فالتفت وتدبر .
وإلى ما ذكرناه من نفي معذوريّة القطع أشار المحقق العراقي ، كما في نهاية الأفكار ، فلاحظ(1) .
أقول :
لا يخفى أن الكلام هنا في القاطع والسبب ، دون المورد .
وأيضاً ، فالكلام في القطع الطريقي المحض ، فلو كان القطع مأخوذاً في موضوع الحكم الشرعي ، فلا ريب في جواز تقييده من قبل الحكم من الحيثيّات الثلاثة ، لأنّه اعتبار من المولى ، فله أن يجعل الموضوع مقيّداً من حيث القاطع بأنْ لا يكون قطّاعاً ، وله أن يجعله مطلقاً . ومن حيث السبب ، له أنْ يقيّد السبب بأنْ يكون القطع حاصلاً من الكتاب والسنّة فقط مثلاً ، وله أنْ لا يقيّد ، أو يقيّد بأنْ لا يكون السبب غير المقدّمة العقليّة من الجفر والرّمل ، أو لا يكون من غير المستقلاّت العقليّة ، وله أن يطلق .
والسبب في طرح هذا البحث ـ كما عرفت ـ هو إلحاق الشيخ جعفر كاشف الغطاء رحمه اللّه قطع القطّاع بشكّ كثير الشك في عدم الاعتبار .
لكنّ الفرق بين القطع والشك واضح ، لأن حجيّة القطع عقليّة ، إذ العقل يحكم بوجوب متابعة القطع ويراه منجّزاً ومعذّراً ، وأمّا كاشفيّة قطع القطّاع عن الواقع وإنْ لم تكن حاصلةً ، إلاّ أنها موجودة عند القطّاع نفسه ، فإنه عنده طريق إلى الواقع وكاشف عنه .
وعلى الجملة : إنّ هذه أحكام عقليّة ، يرتّبها العقل على القطع ، سواء كان القاطع قطّاعاً أوْلا ، ولولم يرتّبها يلزم تخلّف الحكم عن موضوعه ، وهو محال .
(1) منتقى الاصول 4 / 118 ـ 119 .