مناقشته
ويرد الإشكال عليه فيما ذكره من كون حجيّة الظواهر وخبر الثقة منتزعة من بناء العقلاء ، وذلك :
أوّلاً : إنه يستحيل أنْ يكون نفس بناء العقلاء علّةً لحجيّة الظاهر وخبر الثقة ، بل إنّ العقلاء يستكشفون مراد المتكلّم من ظاهر كلامه ، ويرون ما أخبر به المخبر محقّقاً في الخارج فيعتمدون عليه ويرتبُون الأثر ، لا أنّ الحجيّة تنتزع من بنائهم العملي على اتّباع الظاهر وخبر الثقة ، إذ ليس في بناء العقلاء تعبّد كما هو الحال بين الموالي والعبيد .
وثانياً : إن بناء العقلاء على العمل ، إمّا هو الإسناد أو الإستناد ، ولا يعقل فيه الإهمال ، فإمّا هو بشرط لا عن الحجيّة أو لا بشرط بالنسبة إليها أو بشرطها ، أمّا الإسناد والإستناد بشرط عدم الحجيّة ، فباطل بالضّرورة ، وكذا اللاّبشرط ، فلا محالة ينحصران بصورة الحجيّة ، وعليه ، فلابدّ وأنْ تكون الحجيّة متقدّمة على العمل تقدّم الشرط على المشروط ، فلو كانت الحجيّة منتزعةً من بناء العقلاء لزم أنْ تكون متأخرةً عن العمل تأخّر الأمر المنتزع عن منشأ انتزاعه ، فيلزم اجتماع التقدّم والتأخّر في الشيء الواحد ، وهو محال .
وأمّا ما ذكره في نفي الطريقيّة والوسطيّة في الإثبات واعتبار الوصول في الأمارات ، ففيه :
أوّلاً : إنا نختار الشقّ الثاني ، وقد أشرنا إلى أنه ليس للشارع تأسيسٌ في جعل الطريقيّة للظّاهر والخبر ، وإنّما فعله الإمضاء لما هو عند العقلاء ، فليس له أيّ اعتبار في ناحية الكبرى ، ولذا يقع السؤال من الإمام عليه السلام عن الصغرى في : « أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني ؟ »(1) ونحو ذلك ، والعقلاء إنما يرتّبون الأثر في حال وصول الواقع ، سواء كان الوصول عقليّاً أو عقلائيّاً ، وإذا كان الشارع ممضياً طريقة العقلاء ، فإنّ من المعقول حينئذ جعل الطريقيّة .
وثانياً : إنه قال في الصفحة السّابقة :
« ليس ترتّب الأثر على الوصول من باب ترتّب الحكم الكلّي على الموضوع الكلّي بنحو القضايا الحقيقيّة ، حتى يكون القطع من أفرادها المحقّقة الوجود والظن مثلاً من أفرادها المقدّرة الوجود التي يحقّقها الشارع باعتباره وصولاً ، بل هذا الأثر إنما استفيد من بناء العقلاء عملاً على المؤاخذة على التكليف الواصل قطعاً أو الواصل بخبر الثقة » .
فمن هذا الكلام يظهر : أن ما ذكرنا من أنّ اعتبار خبر الثقة من المرتكزات العقلائية موجود في ذهنه هو أيضاً ، وحينئذ نقول : لا ريب أنّ الوصول بخبر الثقة عقلائي وليس بعقلي ، وذلك لا يكون إلاّ باعتبار العقلاء خبره وصولاً للواقع وكاشفاً عنه بإلغائهم احتمال الخلاف فيه.
فما ذكره هنا منقوضٌ بما ذكره من قبل .
والحق في الطرق والأمارات هو : مجعوليّة طريقيّتها من قبل الشارع ، بمعنى إمضائه للسيرة العقلائية فيها ، والحجيّة متفرّعة على الطريقيّة .
وأمّا ما ذهب إليه في الاصول غير المحرزة ، فهو أمتن الوجوه المذكورة فيها ، وتوضيحه بتقريب منّا هو :
إن الإباحة تارةً : تنشأ من عدم الملائمة مع طبع المولى ، واخرى : من مصلحة في نفسها ، وكلاهما ممكن ثبوتاً وإثباتاً ، والفرق أنّ الاولى تنشأ من أمر عدمي ، والثانية من أمر وجودي . فهذه مقدّمة .
والمقدّمة الثانية هي : إنّ الأحكام تلحظ في أنفسها ومباديها ونتائجها ، فهو ينشأ من الإرادة والكراهة ويترتب عليه الإطاعة والعصيان ، وبعبارة اخرى : إنّ الحكم ينشأ من إرادة المولى وكراهية المولى ، ثمّ له الفاعلية في إرادة العبد وكراهيّته .
والحكم اعتبار ، والاعتبار ليس بموضوع للتناقض والتماثل ، ولذا يمكن البعث الإعتباري والزجر الاعتباري في الآن الواحد للشيء الواحد ، وإنما المحذور يكون في المنشأ وفي النتيجة ، أمّا في الأحكام أنفسها ، فلا يوجد التضادّ أصلاً .
ثم إنّ الإرادة والكراهة أمران تكوينيان ، والإباحة أمر اعتباري ، والاعتباري لا ينافي التكويني ، وعليه ، فإن المحذور ليس إلاّ في الأثر والنتيجة ، لأن الإرادة لازمها البعث ولازم الكراهة هو الزجر ، وهما لا يجتمعان مع الإباحة والترخيص ؟
فالتنافي ـ إن كان ـ هو في مرحلة تأثير الإرادة والكراهة ، لكن المفروض عدم وصول الزجر الواقعي إلى ظرف الشك ، فلا مؤثّرية له ، ويبقى المؤثّر هو الحكم الظاهري .
وعلى الجملة ، فإن الاباحة في الحكم الظاهري ناشئة من المصلحة في نفس الإباحة والتنافي إنما يحصل لو كان للحكم الواقعي مؤثريّة في مرحلة الشك ، والمفروض عدمها ، فتؤثّر الإباحة والترخيص والبراءة .
لكنْ لابدّ من التأمّل فيما ذكر ، لأنّ المصلحة التي نشأت منها الإباحة إمّا هي مصلحة التسهيل ، وإمّا هي المصلحة في نفس الإباحة ، بحيث يرخّص العبد حتى في محتمل الوجوب والحرمة . وعلى كلّ حال ، فإن العبد يرخّص في الفعل الذي هو حرام في متن الواقع ويكون ارتكاب الخمر الواقعي ـ المشكوك الخمريّة ـ محبوباً ، وكيف يجتمع الحبّ والبغض في الشيء الواحد ؟
إن هذا الطريق يحلّ المشكلة في الاصول غير المحرزة .
وتبقى مشكلة اجتماع الإرادة والكراهة ، وقد قال في حلّها :
تحقيق الجواب أن حقيقة الحكم خصوصاً في الأحكام الشرعيّة عبارة عن البعث والزجر أعني الانشاء بداعي جعل الداعي من دون لزوم ارادة أو كراهة بالنسبة إلى فعل المكلف في المبدأ الأعلى ، ولا في سائر المبادي العالية ، بل في مطلق من كان بعثه أو زجره لأجل صلاح الغير .
بداهة أن الشوق النفساني لا يكون إلا لأجل فائدة عائدة إلى جوهر ذات الفاعل أو إلى قوة من قواه ، وإلا فحصول الشوق الأكيد بالإضافة إلى الفعل على حد المعلول بلا علّة ، وإنما يتصور الشوق الأكيد إلى فعل الغير إذا كان ذا فائدة عائدة إلى المريد إياه .
وحيث إن أفعال المكلفين لا يعود صلاحها وفسادها إلا إليهم ، فلذا لا معنى لانقداح الإرادة في النفس النبويّة والولوية فضلاً عن المبدأ الأعلى .
مع اختصاصه تعالى بعدم الإرادة التشريعية من جهة أخرى تعرّضنا لها في مبحث الطلب والإرادة مستوفى ، ولعلّنا نشير إليها عما قريب إن شاء اللّه تعالى .
وأما الإرادة المتعلّقة بنفس البعث والزجر ، فهي إرادة تكوينية لتعلّقها بفعل المريد لا بفعل المراد منه ، ولا ترد على ما ورد عليه البعث ، كما لا يخفى .
وعليه ، فليس بالنسبة إلى فعل المكلف إرادة أصلاً فضلاً عن الإرادتين ، بل لو فرضنا انبعاث الإرادة التشريعية عن فائدة عائدة إلى المراد منه ، لم يلزم ثبوت إرادتين تشريعيتين ، لما مرّ مراراً من أن الشوق ما لم يصل إلى حدّ ينبعث عنه العضلات أو ينبعث منه البعث الحقيقي لا يكاد يكون مصداقاً للإرادة التكوينية أو التشريعيّة ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى عدم مصداقية الإنشاء الواقعي للبعث الحقيقي ، فكما لا بعث حقيقي واقعاً لا إرادة تشريعية واقعاً(2) .
لكنْ يرد عليه :
أوّلاً : إنه لا يوجد برهانٌ على ضرورة وجود المنفعة والمضرّة لشخص المريد والكاره في جميع موارد الإرادة والكراهة ، بل ( وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنينَ )(3) ، و( يُحِبُّ الْمُتَّقينَ )(4) ، ( وَاللّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمينَ )(5) و( يُحِبُّ الصّابِرينَ )(6) في حين يدلّ مثل قول أمير المؤمنين عليه السّلام : «إن اللّه سبحانه وتعالى خلق الخلق حين خَلقَهم غنيّاً عن طاعتهم … »(7) على عدم عود نفع إليه أو دفع ضرر عنه .
وثانياً : إنه وإنْ لم يعُد نفع إلى النفس النبويّة والولويّة من طاعة العباد أو ضررٌ من معصيتهم ، إلاّ أنه لا ريب في ملائمة الطاعة ومنافرة المعصية لتلك النفوس المقدّسة الفانية في حبّ اللّه وطاعته ، وعلى هذا ، فلا ريب في انقداح الحبّ والبغض والإرادة والكراهة فيها ، فيعود الإشكال .
(1) وسائل الشيعة 27 / 141 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، رقم : 33 .
(2) نهاية الدراية 3 / 121 ـ 122 .
(3) سورة آل عمران : 134 .
(4) سورة آل عمران : 76 .
(5) سورة آل عمران : 140 .
(6) سورة آل عمران : 146 .
(7) نهج البلاغة 2 / 160 .