كلام السيّد الخوئي
ومنهم : السيّد الخوئي ، قال :
قد منع الشيخ قدّس سرّه عن ذلك ، لكونه مستلزماً لوقوع المناقضة بين صدر الروايات وذيلها ، وذلك لأن مقتضى إطلاق صدر الروايات كقوله عليه السلام في رواية مسعدة بن صدقة « كلّ شيء هو لك حلال » وقوله عليه السلام في حديث عبداللّه بن سنان « كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال » وأمثال ذلك ثبوت الحكم الظاهري في أطراف العلم الإجمالي ، إذ كلّ واحد من الأطراف يشك في حليّته ، فيصدق عليه هذا العنوان ، ومقتضى إطلاق ذيلها والغاية المذكورة فيها ـ أعني بها العلم بالحكم الواقعي أو معرفته الشامل للعلم الإجمالي ـ هو عدم ثبوت الحكم الظاهري في بعض الأطراف ، وهذا معنى المناقضة بين الصّدر والذيل ، فإن نقيض الموجبة الكلية هي السالبة الجزئية ، فلابدّ من رفع اليد عن إطلاق صدر الروايات وتقييده بالشبهات البدوية ، أو عن إطلاق ذيلها وتقييده بالعلم التفصيلي ، ولا مرجح لأحدهما على الآخر ، فلا محالة تكون الروايات من هذه الجهة مجملة ، فلابدّ من الرجوع في مورد العلم الإجمالي إلى حكم العقل ، وقد عرفت أن العقل لا يفرّق بين العلم الإجمالي والتفصيلي في المنجزية ، بعد ما لم يكن في موارد العلم ولو كان إجمالياً مجال لقاعدة قبح العقاب بلا بيان .
ثم إنه قدّس سرّه ذكر شبهة لإثبات اختصاص الغاية بالعلم التفصيلي وحاصلها : أن كلمة « بعينه » المذكورة في ذيل بعض الأخبار الواردة في المقام ، دالّة على اعتبار العلم التفصيلي في حصول الغاية .
وأجاب عنها : بأنه لا يستفاد من هذه الكلمة إلاّ التأكيد ، فإنه يصح عرفاً أن يقال : أعرف نجاسة إناء زيد بعينه ، فيما إذا علم بنجاسته وتردد بين إنائين ولم يكن إناء زيد متميزاً عن غيره .
أقول : يرد على ما أفاده .
أولاً : إن العلم أو ما هو بمعناه المأخوذ غاية في هذه الروايات ظاهر عرفاً في خصوص ما يكون منافياً للشك في كلّ من الأطراف ، وبعبارة اخرى : ظاهر قوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين أبداً بالشك وإنما تنقضه بيقين آخر » هو أن الغاية إنما هو اليقين المتعلق بعين ما تعلق به الشك بحيث يكون رافعاً له ، لا مطلق اليقين ولو تعلق بغير ما كان الشك متعلقاً به ، وهذا واضح جداً ، وعليه ، فالغاية لا تحصل بالعلم الإجمالي ، ولا يشمله ذيل هذه الأخبار ، فالإطلاق في صدرها بلا معارض .
وثانياً : إن الشيخ رحمه اللّه لا يلتزم بهذا ، إذ لازمه عدم جريان الاصول في أطراف العلم الاجمالي ولو لم يكن منجزاً بخروج بعض أطرافه عن محلّ الابتلاء أو بغير ذلك ، فإذا علم المقلد إجمالاً بموت أحد شخصين مردد بين مقلّده وشخص آخر أجنبي عنه ، فإن لازم ذلك أن لا يتمكن من إجراء الإستصحاب في حياة مقلّده .
وثالثاً : إن ما أفاده من أن كلمة « بعينه » لا تدلّ على اعتبار التمييز بل تكون للتأكيد ، وإن كان متيناً في الجملة ، ولكنه لا يتم في جميع الروايات الثلاثة التي ذكرت فيها هذه الكلمة ، فإن في رواية عبداللّه بن سنان عن الصادق عليه السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه » ، ومن الواضح أن معرفة الحرام من الشيء بعينه فرع تمييزه عن غيره ، وهكذا معرفة النجس من الشيء ، وهذا بخلاف معرفة أن الشيء نجس بعينه الذي مثّل به الشيخ قدّس سرّه ، وكم فرق بين التعبيرين بحسب الظهور العرفي ، فذيل هذه الرواية غير شامل لأطراف العلم الإجمالي ، فلا مانع من التمسك باطلاق صدرها وإن قلنا بإجمال غيرها من الروايات ، وسيأتي تفصيل الكلام إن شاء اللّه في خاتمة الإستصحاب .
فالصحيح : أن المانع عن إجراء الاصول في المقام ثبوتي لا إثباتي .(1)
(1) دراسات في علم الاصول 3 / 90 ـ 91 .