في حاشية الرسائل
أمّا في حاشية الرسائل فقال :
التحقيق في الجواب أنْ يقال : إنها بين ما لا يلزم وما ليس بمحال ، ولنمهّد لذلك مقدمةً :
فاعلم أن الحكم بعد ما لم يكن شيئاً مذكوراً ، يكون له مراتب من الوجود :
أوّلها : أن يكون له شأنه من دون أن يكون بالفعل بموجود أصلاً .
ثانيها : أن يكون له وجود إنشاء من دون أن يكون له بعثاً وزجراً وترخيصاً فعلاً .
ثالثها : أن كون له ذلك مع كونه كان فعلاً من دون أن يكون منجزاً بحيث يعاقب عليه .
رابعها : أن يكون له ذلك كالسّابقة مع تنجّزه فعلاً ، وذلك لوضوح إمكان اجتماع المقتضي لإنشائه وجعله مع وجود مانع أو فقد شرط ، كما لا يبعد أن يكون كذلك قبل بعثته واجتماع العلّة التامة له ، مع وجود المانع من أن ينقدح في نفسه البعث أو الزّجر ، لعدم استعداد الأنام لذلك ، كما في صدر الإسلام بالنّسبة إلى غالب الأحكام .
ولا يخفى أن التضادّ بين الأحكام إنما هو في ما إذا صارت فعليّة ووصلت إلى المرتبة الثالثة ، ولا تضادّ بينها في المرتبة الاولى والثانية ، بمعنى أنه لا يزاحم إنشاء الإيجاب لاحقاً بإنشاء التّحريم سابقا أو في زمان واحد بسببين ، كالكتابة واللفظ أو الإشارة .
ومن هنا ظهر أنّ اجتماع إنشاء الإيجاب أو التحريم مرّتين بلفظين متلاحقين أو بغيرهما ، ليس من اجتماع المثلين ، وإنما يكون منه إذا اجتمع فردان من المرتبة الثالثة وما بعدها ، كما لا يخفى .
إذا عرفت ما مهّدنا فنقول :
أمّا الإشكال بلزوم اجتماع المثلين فيما إذا أصابت الأمارة ، فإن اريد منه اجتماع الإنشائين للإيجاب أو التحريم ، فهو ليس بمحال ، وإن اريد اجتماع البعثين ، فهو غير لازم ، بل يوجب إصابتها أن يصير إنشاء الإيجاب أو التحريم واقعاً بعثاً وزجراً فعليّين .
ومنه يظهر حال الإشكال بلزوم اجتماع الضدّين فيما إذا أخطات ، حيث أن الاجتماع المحال غير لازم ، واللاّزم ليس بمحال ، إذ البعث أو الزّجر الفعلي ليس إلاّ بما أدّت إليه لا بما أخطأت عنه من الحكم الواقعي ، ولا تضادّ إلاّ بين البعث والزّجر الفعليّين .
فإن قلت : لا محيص إمّا من لزوم الاجتماع المحال أو لزوم التّصويب الباطل بالإجماع ، إذ لا يرتفع غائلة الاجتماع إلاّ إذا لم يكن في الواقع بعث وزجر ، ومعه لا حقيقة ولا واقعيّة للحكم .
قلت : التّصويب الّذي قام على بطلانه الإجماع بل تواترت على خلافه الرّوايات ، إنما هو بمعنى أنْ لا يكون له تعالى في الوقايع حكم مجعول أصلاً يتتبع عنه ويشترك فيه العالم والجاهل ومن قامت الأمارة عنده على وفاقه وعلى خلافه ، بل حكمه تعالى يتبع الآراء أو كان متعدّدا حسبما يعلم تبارك وتعالى من عدد الآراء ، وكما يكون بالإجماع بل الضّرورة من المذهب في كلّ واقعة حكم يشترك فيه الامّة لا يختلف باختلاف الآراء ، كذلك يمكن دعوى الإجماع بل الضّرورة على عدم كونه فعليّاً بالنّسبة إلى كلّ من يشترك فيه ، بمعنى أن يكون بالفعل بعثاً أو زجراً وترخيصاً ، بل يختلف بحسب الأزمان والأحوال ، فربّما بصير كذلك في حق واحد في زمان أو حال دون آخر ، كما أنه بالبداهة كذلك في المرتبة الرابعة .
وبالجملة ، المسلّم أنه بحسب المرتبتين الأوليّين لا يختلف حسب اختلاف الآراء والأزمان وغيرهما ، دون المرتبتين الأخيرتين ، فيختلف حسب اختلاف الآراء وغيرها .
إن قلت : إذا كان الحكم الواقعي الذي يقول به أهل الصّواب بهذا المعنى ، فإذا علم به بحكم العقل من باب الملازمة بين الحكم الشرعي وحكمه بحسن شيء أو قبحه لا يجب اتباعه ، ضرورة عدم لزوم اتباع الخطاب بتحريم أو إيجاب ما لم يصل إلى حدّ الزّجر والبعث الفعليّين ، بل وكذا الحال في العلم به من غير هذا الباب .
قلت : مضافاً إلى أنّ العلم به مطلقاً لو خلّي ونفسه يوجب بلوغه إلى حدّ الفعليّة ، إنه إنما يكون ذلك لو كان طرف الملازمة المدّعاة بين الحكمين هو الحكم الشّرعي بهذا المعنى ، فلا ضير في القول بعدم لزوم الاتباع ، وذلك كما لو منع مانع من اتباع العلم الناشي من العقل ، كما يظهر ممّا نقله قدّس سرّه من السيّد الصّدر في تنبيهات القطع ، ولا ينافي ذلك ما أوضحنا برهانه وشيّدنا بنيانه من لزوم اتباع القطع بالحكم الشّرعي على نحو الفعليّة التامة ، فإنه في القطع بالحكم الفعلي كما أشرنا إليه في توجيه كلام الأخباريّين ، لا ما لو كان الطرف هو الحكم الفعلي الشّرعي ، بأن يدّعى أنّ استقلال العقل بحسن شيء أو قبحه فعلاً ، يستلزم الحكم الشّرعيّ به كذلك. نعم ، لو لم يستقل إلاّ على جهة حسن أو قبح لا حسنه أو قبحه مطلقاً ، لم يستكشف به إلاّ حكماً ذاتياً اقتضائياً يمكن أن يكون حكمه الفعلي على خلافه ، لمزاحمة تلك الجهة بما هو أقوى منها . فتفطنّ .
وأمّا حديث لزوم اتصاف الفعل بالمحبوبيّة والمبغوضيّة ، وكونه ذا مصلحة ومفسدة ـ من دون وقوع الكسر والانكسار بينهما ، فيما إذا أدّت الأمارة إلى حرمة واجب أو وجوب حرام ـ فلا أصل له أصلاً ، وإنما يلزم لو كانت الأحكام مطلقاً ولو كانت ظاهريّة ، تابعة للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهيّ عنها ، وأمّا إذا لم يكن كذلك ، بل كانت تابعة للمصالح في أنفسها والحكم في تشريعها ، سواء كانت كلّها كذلك أو خصوص الأحكام الظاهريّة منها ، فلا ، كما لا يخفى ، وليست قضيّة قواعد العدلية ، إلاّ أنّ تشريع الأحكام إنما هو لأجل الحكم والمصالح التي قضت بتشريعها ، بخلاف ما عليه الأشاعرة .
مع أنه لو كانت الأحكام مطلقاً تابعة للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهيّ عنها ، فذلك غير لازم أيضاً ، فإن الكسر والإنكسار إنما يكون لابدّ منه بين الجهات مطلقاً في مقام تأثيرها الأحكام الفعليّة لا في مجرّد الإنشاء ، وقد عرفت أن الحكم الواقعي فيما أخطأت الأمارة ليس يتحقق إلاّ بالوجوب الإنشائي ، فيكون الجهة الواقعية التي يكون في الواقعة مقتضيةً لإنشاء حكم لها من إيجاب أو تحريم أو غيرهما ، فينشئ على وفقها من دون أن يصير فعليّاً إلاّ بامور ، منها : عدم قيام أمارة معتبرة على خلافه المحدث فيها جهة اخرى غالبة على تلك الجهة ، يكون موجبة لحكم آخر فيها بالفعل ، فالكسر والانكسار إنّما يقع بين الجهات فيما أدّت إليه الأمارة من الحكم في صورة الخطاء ، لكونه حكماً فعليّاً ، لا في الحكم الواقعي الّذي أخطأت عنه الأمارة ، بل إنّما هو إنشاء بمجرّد ما في الواقعة بما هي من الجهة الواقعيّة ، كما هو الحال في جميع الأحكام الذّاتيّة الاقتضائيّة المجعولة للأشياء بما هي عليها من العناوين الأوّليّة ، وإن كانت أحكامها الفعليّة بسبب ما طرأت عليها من العناوين الثّانويّة على خلافها .
ومن هنا ظهر أنّ المحبوبيّة أو المبغوضيّة تابعة لغالب الجهات كالحكم الفعلي ، فلا يلزم أن يكون الفعل الواحد محبوباً ومبغوضاً بالفعل .
وقد ظهر ممّا ذكرنا ههنا ما به يذبّ عن إشكال التّفويت والإلقاء ، لأنّهما لا يلزمان من إباحة الواجب أو الحرام ، لإمكان أن يكون الإيجاب أو التّحريم واقعاً عن الحكم في التّشريع ، لا عن مصلحة في الواجب أو عن المفسدة في الحرام ، مع إمكان منع أن يكون تلك الجهة الموجبة لتشريع الوجوب أو التحريم لازم الاستيفاء أو لازم التحرّز كي يلزم ذلك .
هذا ، مع أنّه لو سلّم كونها لازم الاستيفاء ، لا يكون تشريع التّرخيص والإباحة ظاهراً للمفوّت له قبيحاً مطلقاً ، بل إذا لم يكن عن مصلحة وحكمة كائنة فيه وراجحة على ما فيه من جهة القبح ، ومن المعلوم أنّ الفعل لا يكون قبيحاً أو حسناً فعلاً بمجرّد أن يكون فيه جهة قبح أو حسن ، بل إذا لم يكن مزاحمة بما يساويها أو أقوى كما لا يخفى .
هذا كلّه إذا كانت الأحكام الظّاهريّة لمصالح في تشريعها لا لمصالح في سلوكها . وأمّا بناء على ذلك ، فالمصلحة المفوّتة عليه أو المفسدة الملقى فيها ، متداركة بمصلحة سلوك الأمارة ، ومعه لا قبح في التّفويت والإلقاء كما لا يخفى ، حيث أنّهما كلا تفويت ولا إلقاء .
فتلخّص من جميع ما ذكرنا ، أنه لا يلزمُ التّصويب من الالتزام بجعل الأحكام وإنشائها للأفعال بما هي عليها من العناوين ، وقد جعل عليها أمارات تخطئ عنها تارة وتصيب اخرى ، ولا اجتماع المثلين في صورة الإصابة ، لعدم لزوم البعثين أو الزّجرين ، بل يصير الحكم الواقعي فعليّاً بسبب إصابتها ، ولا اجتماع الضّدّين في صورة الخطاء ، لعدم اجتماع البعث والزّجر الفعليّين ، بل ليس البعث أو الزّجر الفعلي إلاّ في مؤدّى الأمارة ، ولا التّفويت والإلقاء القبيحين ، إمّا لأجل التّدارك بمصلحة السّلوك ، وإمّا لعدم كون المصلحة أم المفسدة الواقعيّة لازم الاستيفاء والتحرّز ، أو لأجل كون الفعل الموجب لهما مشتملاً على ما هو أقوى وأرجح من جهات الحُسن من هذه الجهة المقبّحة لو سلّم .
ثُمّ لا يخفى إنّه قد ظهر من مطاوي ما ذكر أنّ التّضاد والتّماثل المانعين عن اجتماع الحكمين ، إنّما هو في المرتبتين الأخيرتين مطلقاً ، سواء كانا واقعيّين أو ظاهريّين أو مختلفين ، فلو بلغ حكم إليهما واقعاً في موضوع ، لم يمكن أن يحكم عليه فعلاً ولو ظاهراً بحكم آخر مطلقاً ولو كان مثله ، هذا إن لم يعلم به أصلاً فضلاً عمّا إذا علم به تفصيلاً أو إجمالاً .
فما ذكرناه سابقاً من التّفاوت بين العلمين ، وأن مرتبة الحكم الظّاهري محفوظة مع الإجمالي دون التّفصيلي ، إنّما هو في المعلوم في غير هاتين المرتبتين ، حيث أنّه لا يكون مع التّفصيلي مرتبة غير مرتبة الحكم الواقعيّ ، فلا معنى لجعل حكم آخر إلاّ بعد نسخه ورفع اليد عنه بالمرّة ، إذ لا يمكن أن يكون في فعل واحد من شخص واحد علّتان لإنشاء حكمين في عرض واحد في زمان واحد كما لا يخفى ، بخلاف الإجمالي ، حيث يعقل فيه مع بقائه على حاله وعدم رفع اليد عنه ، أن يجعل في هذه المرتبة ومع الجهل به تفصيلاً حكم فعلي يعمل على وفقه على خلافه .
فظهر أنّ مع الفعليّ من الواقعيّ لا مجال للظاهريّ أصلاً ولو مع الجهل به رأساً ، غاية الأمر كون المكلّف معذوراً معه لو كان من قصور عقلاً ، ومع الشأني منه المتحقّق بمجرّد الوجود الإنشائي يكون له المجال مطلقاً ، ولو كان معلوماً بالإجمال ، ويترتّب عليه آثاره إذا انكشف الحال(1) .
(1) درر الفوائد في حاشية الفرائد : 36 ـ 39 .