في الكفاية
وأمّا في الكفاية ، فقد قال :
إنّ ما ادّعي لزومه إمّا غير لازم أو غير باطل …(1) .
وتوضيحه : أنّ المجعول في باب الأمارات لا يخلو عن وجوه :
1 ـ أن يكون المجعول نفس « الحجيّة » .
2 ـ أن يكون المجعول هو الحكم النفسي .
3 ـ أن يكون المجعول هو الحكم الطريقي .
4 ـ أن يكون المجعول هو الحجيّة المستتبعة للحكم الطّريقي .
أمّا أن الشارع قد جعل في مورد الأمارة حكماً نفسياً ذا مصلحة ، كما هو الحال في الأحكام الشرعية ، فإن الإشكال بلزوم اجتماع المثلين أو الضدّين لازم .
لكنّ المبنى باطل ، لأن المجعول في مورد الأمارة ليس هو الحكم التكليفي ، بل هو حكم وضعي ، ولو كان تكليفيّاً فهو طريقي لا نفسي .
وأمّا أن يكون المجعول هو الحجيّة المستتبعة للحكم التكليفي ، مثل الملكيّة المستتبعة لجواز التصرّف ، فلا يلزم المحذور ، لأنّ الحكم طريقي ، وهو لا يضادّ ولا يماثل الحكم الواقعي النفسي .
والمراد من الحكم الطريقي هو الحكم الذي يجعله المولى بلحاظ الواقعيّة من أجل المحافظة عليها ، وهكذا حكم لا سنخيّة له مع الحكم الواقعي حتى يماثله أو يضادّه .
ولو قيل : يجعل الحكم التكليفي ثم ينتزع منه الحكم الوضعي ، كأن يقول : إعمل بقول زرارة ، فإنه ينتزع منه حجيّة قوله ، كما هو مسلك الشيخ في الأحكام الوضعية .
فعلى هذا المبنى أيضاً لا يلزم المحذور أصلاً ، لكون مثل هذا الحكم طريقيّاً كذلك ، لعدم كونه ناشئاً من المصلحة أو المفسدة في المتعلّق .
هذا ، والمختار عنده أنّ المجعول في باب الأمارة هو « الحجيّة » .
أي : كما أنّ القطع كاشف حقيقي عن الواقع ، وهو حجّة للعبد على المولى ، وعذر له إذا حصلت المخالفة ، وهو حجة عند العقلاء جميعاً ، وهذا المعنى من لوازم القطع ذاتاً ، كذلك الأمارة ، فإن لها جميع هذه الآثار والأحكام ، غير أنّ هذا بجعل من المولى ، فالأمارة كالقطع مع فرق واحد هو أن الحجيّة هناك ذاتيّة وهنا اعتبارية .
وعليه ، فإن متعلّق الأمارة نفس هذا الأمر الوضعي ، أعني الحجيّة ، والمصلحة قائمة بها ، وحينئذ ، يتّضح عدم لزوم محذور اجتماع المثلين أو الضدّين ، لأن المصلحة قائمة في الأمارة بنفس هذا الأمر الوضعي ، أمّا في الحكم الواقعي ، فهي قائمة بالمتعلّق .
فلا محذور في مرحلة الملاك .
وكذا في مرحلة الإرادة والكراهة .
وأمّا في مرحلة الحكم ـ وهو يرى التضادّ في الأحكام ـ فالمفروض أنّ الحكم الواقعي تكليفي مثل وجوب صلاة الجمعة ، والحكم الظاهري القائم عليها الأمارة وضعي وهو الحجيّة ، أي : حجيّة خبر الثقة على الواقع ، فهما ليسا من سنخ واحد حتى يلزم التضاد أو المماثلة .
وأمّا في مرحلة الامتثال ، فإنْ تعلّق العلم بالحكم الواقعي ، أو كانت الأمارة مطابقةً له ، فالواجب امتثال الحكم الواقعي ، وأمّا في صورة المخالفة ، فالأمارة عذر للعبد أمام المولى ، ولا يقتضي الحكم الواقعي الامتثال .
وهكذا ينحلّ المشكل على جميع المباني .
إلاّ أن المحقق الخراساني يرى بقاء المشكلة في « أصالة الإباحة »(2) ، لأن المجعول في موردها بنظره هو الإذن والترخيص ، فكان الشارع قد جعل الإباحة مع وجود الحكم الواقعي ، فتارةً تضادُّ الإباحة الحكم الواقعي ، واُخرى تماثله .
وهذا الإشكال يلزم بناءً على جعل الحكم الظاهري في مورد الاستصحاب .
وقد حلّ المشكل في أصالة الأباحة ، بأنّ الحكم الواقعي في مورد أصالة الإباحة غير فعلي .
والظاهر أنّ مراده من عدم الفعليّة هنا هو : أن الحكم الواقعي مجعول ، بحيث لو علم به لتنجّز ، فلا باعثيّة وزاجرية له في ظرف الجهل به ، وحينئذ ، لا يلزم المحذور ، لأنّ المكلّف في هذه الحالة ينبعث أو ينزجر من الإباحة الظاهرية المجعولة فعليّته لا من الحكم الواقعي .
(1) كفاية الاصول : 277 .
(2) كفاية الاصول : 278 .