عدوله عنه في الكفاية
قال في الكفاية :
وما ذكرنا في الحاشية… لا يخلو من تكلّف بل تعسّف(1) .
أقول :
أمّا التكلّف ، فلأنّ دعوى الملازمة بين تنزيل المؤدى بمنزلة الواقع وتنزيل اليقين التعبّدي بمنزلة اليقين الواقعي ، تحتاج إلى دليل في مقام الإثبات ، ولا يوجد عليها دليل ، إذ الملازمة التكوينية منتفية ، وكذا الشرعيّة ، وتبقى العرفيّة ، والمرجع فيها أهل العرف ، وليس عند العرف هكذا تلازم .
وأمّا التعسّف ، فإشارة إلى مقام الثبوت ، ففي المثال المذكور ، لمّا كان موضوع وجوب التصدق مركباً من « القطع » و« وجوب صلاة الجمعة » ، فجاء الخبر بوجوب صلاة الجمعة ونزّلنا المؤدى بمنزلة الواقع بدليل اعتبار خبر الثقة ، فهل يتمكّن دليل الاعتبار من إحراز القطع أيضاً ؟ إنه لا يمكن ، للزوم الدور ، من جهة أنّ تنزيل الأمارة بمنزلة القطع ـ بإلغاء احتمال الخلاف ـ يتوقف على ترتّب الأثر الشرعي ـ وهو وجوب التصدّق عليه ، وإلاّ يكون التنزيل لغواً ، لكنْ ترتّب هذا الأثر عليه يتوقف على إحراز الموضوع ـ أي موضوع وجوب التصدّق ـ والمفروض تركبّه من جزئين أحدهما هو القطع ، وإحراز القطع وتحقّقه يتوقف على تنزيل الأمارة بمنزلة القطع بإلغاء احتمال الخلاف ، فكان تنزيل الأمارة بمنزلة القطع موقوفاً على نفسه .
فالقول بأن دليل الاعتبار يفيد كلا التنزيلين بدلالتين ـ احداهما مطابقية والاخرى التزاميّة ـ باطل ، بل يحتاج لتماميّة التنزيل الثاني ـ وهو تنزيل الأمارة بمنزلة القطع ، وإلغاء احتمال الخلاف ـ إلى دليل آخر ، أمّا بنفس دليل الاعتبار فيستلزم الدور .
هذا بيان ما ذكره الأعلام(2) .
وحاصله : أن « التكلّف » ناظر إلى مقام الإثبات ، و« التعسّف » ناظر إلى مقام الثبوت .
لكنّ السيد الاستاذ قدّس سرّه بعد أنْ نقل عن الأعلام الوجه المذكور قال :
ولكنْ لا صراحة بل لا ظهور في كلام صاحب الكفاية فيما حمل عليه ، نعم في تعبيره بالتوقّف مجرّد إشعار ، ولكنه كما يمكن أن يريد به ذلك ، يمكن أن يريد به التوقف بمعنى التلازم ، كما يقال : أحد الضدّين يتوقف على عدم الآخر ، مع أنه لا عليّة ولا معلوليّة بينهما .
ثم ذكر أنه يمكن أن يكون مراد صاحب الكفاية محذور آخر غير الدّور ، ـ وهو ما أفاده شيخنا أيضاً في الدورة اللاّحقة ـ وهو :
إنّ التعبّد بأحد الجزئين فيما نحن فيه لمّا كان في طول الآخر ، كان التعبّد بالآخر في ظرفه ممتنعاً ، لعدم ترتب الأثر عليه وحده ، والفرض أن الجزء الآخر لا يتحقّق إلاّ بعد التعبد به ، فملخّص الإشكال : إن التعبّد بالمؤدّى لا أثر له شرعاً وهو يمنع من صحّة التعبّد ، إذ التعبّد بالموضوع لا معنى له إلاّ التعبّد بالحكم . فمرجع كلام الكفاية إلى أنه لابدّ أنْ يكون التعبّد بأحد الجزئين في حين التعبّد بالجزء الآخر ، لا أنّ التعبّد بأحدهما يتوقف على التعبد بالآخر وإلاّ لزم الدور حتى في مورد التعبد بالجزئين في عرض واحد كما لا يخفى(3) .
(1) كفاية الاصول : 266 .
(2) نهاية الأفكار ق 1 ج 1 ص 26 ، فوائد الاصول 3 / 28 .
(3) منتقى الاصول 4 / 84 .