طريق المحقق الفشاركي و اليزدي
وسلك المحقّق السيّد الفشاركي طريقاً آخر ، وتبعه تلميذه المحقّق الحائري اليزدي ، وقرّره في الدرر حيث قال :
إنه لا إشكال في أن الأحكام لا تتعلق ابتداء بالموضوعات الخارجيّة ، بل إنما تتعلق بالمفاهيم المتصورة في الذهن ، لكن لا من حيث كونها موجودة في الذهن ، بل من حيث إنها حاكية عن الخارج ، فالشيء ما لم يتصور في الذهن لا يتصف بالمحبوبية والمبغوضية ، وهذا واضح .
ثم إن المفهوم المتصوّر تارة : يكون مطلوباً على نحو الإطلاق ، واخرى : على نحو التقييد ، وعلى الثاني ، فقد يكون لعدم المقتضي في ذلك المقيد ، وقد يكون لوجود المانع ; مثلاً قد يكون عتق الرقبة مطلوباً على سبيل الإطلاق ، وقد يكون الغرض في عتق الرقبة المؤمنة خاصة ، وقد يكون في المطلق ، إلا أن عتق الرقبة الكافرة مناف لغرضه الآخر ، ولكونه منافياً لذلك الغرض لابد أن يقيد العتق المطلوب بما إذا تحقق في الرقبة المؤمنة ، فتقييد المطلوب في القسم الأخير إنما هو من جهة الكسر والانكسار ، لا لتضييق دائرة المقتضي ، وذلك موقوف على تصور العنوان المطلوب أوّلاً مع العنوان الآخر المتحد معه في الوجود المخرج له عن المطلوبيّة الفعلية ، فلو فرضنا عنوانين غير مجتمعين في الذهن ، بحيث يكون المتعقل أحدهما لا مع الآخر ، فلا يعقل تحقق الكسر والانكسار بين جهتيهما ، فاللاّزم من ذلك أنه متى تصور العنوان الذي فيه جهة المطلوبية يكون مطلوباً صرفاً من دون تقييد ، لعدم تعقّل منافيه ، ومتى تصور العنوان الذي فيه جهة المبغوضيّة يكون مبغوضاً كذلك ، لعدم تعقل منافيه ، كما هو المفروض .
والعنوان المتعلّق للأحكام الواقعية مع العنوان المتعلق للأحكام الظاهريّة مما لا يجتمعان في الوجود الذهني أبداً ، مثلاً : إذا تصور الآمر صلاة الجمعة ، فلا يمكن أن يتصور معها إلاّ الحالات التي يمكن أن تتصف بها في هذه الرتبة ، مثل كونها في المسجد أو الدار وأمثال ذلك ، وأما اتصافها بكون حكمها الواقعي مشكوكاً ، فليس مما يتصور في هذه الرتبة ، لأن هذا الوصف مما يعرض الموضوع بعد تحقق الحكم ، والأوصاف المتأخرة عن الحكم لا يمكن إدراجها في موضوعه ، فلو فرضنا أن صلاة الجمعة في كلّ حال أو وصف يتصور معها في هذه الرتبة مطلوبة بلا مناف ومزاحم ، فإرادة المريد تتعلّق بها فعلاً ، وبعد تعلّق الإرادة بها تتصف بأوصاف اُخر لم تتصف بها قبل الحكم ، مثل أن تصير معلوم الحكم تارة ومشكوك الحكم اخرى ، فلو فرضنا بعد ملاحظة اتصاف الموضوع بكونه مشكوك الحكم تحقق جهة المبغوضية فيه ، يصير مبغوضاً بهذه الملاحظة لا محالة ، ولا يزاحمها جهة المطلوبية الملحوظة في ذاته ، لأن الموضوع بتلك الملاحظة لا يكون متعقلاً فعلاً ، لأن تلك الملاحظة ذات الموضوع مع قطع النظر عن الحكم ، وهذه ملاحظته مع الحكم .
فإن قلت : العنوان المتأخر وإن لم يكن متعقلاً في مرتبة تعقل الذات ، ولكن الذات ملحوظة في مرتبة تعقل العنوان المتأخر ، فعند ملاحظة العنوان المتأخر يجتمع العنوانان في اللّحاظ ، فلا يعقل المبغوضية في الرتبة الثانية مع محبوبية الذات .
قلت : تصوّر ما يكون موضوعاً للحكم الواقعي الأوّلي مبني على قطع النظر عن الحكم ، لأن المفروض كون الموضوع موضوعاً للحكم ، فتصوّره يلزم أن يكون مجرّداً عن الحكم ، وتصوره بعنوان كونه مشكوك الحكم لابدّ وأن يكون بلحاظ الحكم .
ولا يمكن الجمع بين لحاظ التجرّد عن الحكم ولحاظ ثبوته ، وبعبارة اخرى : صلاة الجمعة التي كانت متصورة في مرتبة كونها موضوعة للوجوب الواقعي ، لم تكن مقسماً لمشكوك الحكم ومعلومه ، والتي تتصور في ضمن مشكوك الحكم تكون مقسماً لهما ، فتصور ما كان موضوعاً للحكم الواقعي والظاهري معاً ، يتوقف على تصور العنوان على نحو لا ينقسم إلى قسمين ، وعلى نحو ينقسم إليهما ، وهذا مستحيل في لحاظ واحد . فحينئذ نقول : متى تصوّر الآمر صلاة الجمعة بملاحظة ذاتها ، تكون مطلوبة ، ومتى تصورها بملاحظة كونها مشكوك الحكم ، تكون متعلقة لحكم آخر . فافهم وتدبّر فإنه لا يخلو من دقة(1) .
(1) درر الفوائد (1 ـ 2) 350 ـ 354 .