طريق المحقق العراقي
وقد أجاب المحقق العراقي عن الإشكال بعد تمهيد مقدمات أربع نلخّصها فيما يلي :
فالمقدّمة الاولى هي : إن الأحكام الشرعية لا تكون قائمةً إلاّ بنفس العناوين المنتزعة عن الجهة التي قامت بها المصلحة الخارجيّة بما أنها ملحوظة خارجيّةً … .
والمقدّمة الثانية هي : إنه كما ينتزع من وجود واحد عنوانان عرضيّان ، كذلك يمكن أن ينتزع منه عنوان طوليّان ، على وجه يكون انتزاع أحد العنوانين في طول الحكم المتعلّق بالعنوان الآخر . وفي هذا القسم ، تارة : تكون طوليّة العنوانين من جهة طوليّة الوصف المأخوذ في أحد العنوانين ، بلا طوليّة في طرف الذات المعروضة للوصف ، كما في الخمر والخمر المشكوك حكمها . واخرى : تكون طوليّة العنوانين حتى من جهة الذات المحفوظة فيهما المستلزمة لاعتبار الذات في رتبتين ، تارة : في الرتبة السّابقة على الوصف التي رتبة معروضيّتها له . واخرى : في الرتبة اللاّحقة عن الوصف ، نظير الذات المعروضة للأمر والذات المعلومة لدعوته المنتزع عنها عنوان الإطاعة .
والمقدّمة الثالثة هي : إنّ لوجود المراد وتحقّقه في الخارج مقدّمات اختيارية من قبل المأمور ، نظير الستر والطهور وغيرهما بالنسبة إلى الصّلاة ، ومقدّمات اختيارية من قبل الآمر ، كخطابة الموجب لعلم المأمور بإرادته الباعث على إيجاده وخطابه الآخر في طول ذلك عند جهل المأمور بالخطاب الأوّل ، وهكذا ، ولا شبهة في أن الإرادة التشريعيّة التي يتضمّنها الخطاب المتعلّق بعنوان الذات ، إنما يقتضي حفظ وجود المتعلّق من قبل خصوص المقدّمات المحفوظة في الرتبة السّابقة على تلك الإرادة ، وهي المقدّمات الإختيارية المتمشّية من قبل المأمور … .
والمقدمة الرّابعة هي : إنه لا شبهة في اختلاف مراتب الاهتمام بحفظ المرام بالنسبة إلى المقدّمات المتأخّرة المتمشّية من قبل الآمر حسب اختلاف المصالح الواقعيّة في الأهميّة … .
قال :
بعد أن عرفت ما مهّدناه من المقدّمات ، يظهر لك اندفاع الشبهة المذكورة في إمكان جعل الطّريق على خلاف الواقع بتقاريها ، حتى على الموضوعيّة فضلاً عن الطريقيّة في حال الانفتاح والإنسداد …(1) .
أقول :
إنّ المهمّ من المقدّمات هو المقدّمتان الاولى والثانية .
أمّا الاولى ، فقد تقدّمت في طريق السيّد الفشاركي ، فلا نعيد الكلام حولها .
وأمّا الثانية ، فهي لبيان الطوليّة بين موضوعي الحكمين ، وتوضيحها هو :
إنه قد ينتزع من الوجود الواحد عنوانان أو أكثر ، ولكنْ قد تكون العناوين المنتزعة في عرض واحد ، كما ينتزع « العالم » و« العادل » من الوجود الواحد وهما في عرض واحد ، وقد تكون في الطول ، والطولية تارة تكون في الوصف ، واخرى في الذات .
مثال الطّولية في الوصف : الخمر ، والخمر المشكوك الحرمة ، فإنهما عنوانان منتزعان من الوجود الخارجي للخمر وهما متّحدان في الذات ولكنهما في الوصف طوليّان ، لأن « مشكوك الحرمة » في طول « الحرمة » لكون الحرمة متفرعة على الخمريّة ومتأخرة عنها تأخر الحكم عن الموضوع ، والشك في الشيء متأخّر طبعاً عن الشيء .
ومثال الطوليّة في الذات هو : معروض الحكم ومعلول الأمر ، فإنهما عنوانان طوليّان بينهما اختلاف في الرتبة ، فالصّلاة إذا تعلّق بها الوجوب ، كانت مقدّمةً في الرتبة على الوجوب ، وهو الحكم ، وهي إذا أتي بها بداعي الوجوب أصبحت معلولة لهذا الوجوب ، فكانت الصلاة بكونها معروضةً للوجوب مقدّمةً رتبةً عند كونها معلولةً للوجوب .
وهذه هي المقدّمة الثانية .
وما نحن فيه من قبيل المثال الثاني ، أي توجد الطوليّة بين الخمر والخمر المشكوك الحرمة ، وذلك :
تارةً : يلحظ الشكّ بنحو الحيثيّة التقييديّة لموضوع الحكم .
واخرى : بنحو الحيثية ا لتعليليّة .
فإنْ كان الأوّل ، فلا يلزم اختلاف الرتبة في الذات ، لأنّه وصف .
أمّا على الثاني ، فإنه يكون الشكّ علّةً ، وهو ظاهر الأدلّة في موارد الأحكام الظاهريّة .
وحينئذ ، فإنّ « الخمر » موضوع للحرمة الواقعيّة ، و« الخمر المشكوك الحرمة » حلال ، فصار الشك علةً للحكم .
وعليه : فإنّ الخمر الذي هو موضوع الخمر الواقعي متقدّم رتبةً على الحرمة ، وهو الحكم العارض عليه ، ولكنّ الخمر الذي هو موضوع الحكم الظاهري متأخر رتبةً عن الشك في الحرمة ، فتأخر موضوع الحكم الظاهري عن موضوع الحكم الواقعي .
ومع التأخر الرتبي لا يلزم أيّ اجتماع .
(1) نهاية الأفكار ق 1 ج 3 ص 60 ـ 69 .