طريق المحقق الإصفهاني
وذهب المحقق الإصفهاني ، أمّا في الطرق والإمارات ، فإلى أنّ المجعول فيها هو « الحجيّة » ، ولمّا كانت الحجيّة المجعولة بالاعتبار أمراً وضعيّاً ، فليس بينها وبين الحكم الواقعي تماثل ولا تضادٌّ . وقد قال بتوضيح مختاره هذا :
إنّ الحجية مفهوماً ليست إلا كون الشيء بحيث يصح الاحتجاج به .
وهذه الحيثية : تارة تكون ذاتيّة غير جعلية كما في القطع ، فإنه في نفسه بحيث يصح به الاحتجاج للمولى على عبده .
وأخرى : تكون جعلية إما انتزاعيّة كحجّية الظاهر عند العرف وحجّية خبر الثقة عند العقلاء ، فإنه بملاحظة بنائهم العملي على اتباع الظاهر وخبر الثقة والاحتجاج بهما يصح انتزاع هذه الحيثيّة من الظاهر والخبر .
وإمّا اعتباريّة ، كقوله عليه السلام : « فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجة اللّه »(1)فإنه جعل الحجية بالاعتبار .
والوجه في تقديم هذا الوجه على سائر الوجوه ـ مع موافقته لمفهوم الحجّية ، فلا داعي إلى اعتبار أمر آخر غير هذا المفهوم ـ هو أن المولى إذا كانت له أغراض واقعيّة وعلى طبقها أحكام مولوية ، وكان إيكال الأمر إلى علوم العبيد موجباً لفوات أغراضه الواقعيّة ، إما لقلّة علومهم ، أو لكثرة خطئهم ، وكان إيجاب الإحتياط تصعيباً للأمر منافياً للحكمة ، وكان خبر الثقة غالب المطابقة ، فلا محالة يعتبر الخبر بحيث يصح الاحتجاج به .
وكلّ تكليف قام عليه ما يصح الاحتجاج به اعتباراً من المولى ، كان مخالفته خروجاً عن زيّ الرقيّة ورسم العبوديّة ، وهو ظلم على المولى ، والظلم مما يذمّ عليه فاعله .
ولا حاجة بعد تلك المقدمات إلى اعتبار الخبر وصولاً وإحرازاً : إذ لو لم تكن تلك المقدمات لم يجد اعتبار الوصول ، إذ كل اعتبار لابد من أن ينتهي إلى حقيقة تقتضي ذلك الاعتبار .
وإذا كانت هذه المقدّمات ، كفى اعتبار الخبر بحيث يحتج به من دون لزوم توسط اعتبار آخر .
وكفى بهذا شاهداً ملاحظة حجيّة الظاهر وخبر الثقة عند العرف والعقلاء ، فإن تلك المقدّمات تبعثهم على العمل بالظاهر والخبر ، لا أنها تقتضي اعتبار الوصول والإحراز منهم جزافاً للعمل بالظاهر والخبر . هذا كلّه في الحجيّة المجعولة بالاستقلال .
وأما المجعولة بالتبع ، فتارة : يراد بها الوساطة في إثبات الواقع عنواناً ، وأخرى : الوساطة في إثبات الواقع بعنوان آخر ، وثالثة : الوساطة في تنجز الواقع :
فنقول : أمّا الوساطة في إثبات الواقع عنواناً ، فهي بجعل الحكم على طبق المؤدى بعنوان أنه الواقع كما هو مقتضى ظاهر التصديق وأنه الواقع ، فهو حكم مماثل للواقع الذي قام عليه الخبر ، لكنه لا بما هو هو بل بما هو الواقع ، فوصوله بالذات وصول الواقع عنواناً وعرضاً .
وأما الوساطة في إثبات الواقع بعنوان آخر ، فهي بجعل الحكم المماثل بداعي إيصال الواقع بعنوان آخر ، بمعنى أن وجوب صلاة الجمعة وإن لم يصل بعنوانه ، لكنه وصل بعنوان كونه مما قام عليه الخبر ، نظير ما إذا قيل : أكرم زيداً وحيث لم يعرفه يقال له أيضاً بداعي جعل الداعي : أكرم جارك ، فالغرض من جعل الداعي إيصال الجعل الأول بعنوان آخر .
وأما الوساطة في تنجز الواقع ، فهي كما إذا قال صدق العادل ، بداعي تنجيز الواقع بالخبر .
فالأوّلان إنشاء بداعي جعل الداعي ، والثالث إنشاء بداعي تنجيز الواقع ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى الإشكال في الثالث .
وأما الأوّلان ، فربما يشكل بأن الحجية إذا كانت منتزعة من جعل الحكم التكليفي نظير الجزئية والشرطية المنتزعة من تعلق الحكم بالمركب والمقيد ، لزم دوران الحجية مدار بقاء الحكم التكليفي كما هو شأن الأمر الانتزاعي ومنشأ انتزاعه ، مع أن الحكم التكليفي يسقط بالعصيان والخبر لا يسقط عن الحجية ، كما أن الجزئية بمعنى كون الشيء بعض المطلوب يدور مدار بقاء المطلوبيّة ، فإذا سقط الطلب ليس ذات الجزء موصوفاً بالجزئية للمطلوب فعلاً .
ويندفع بأنه :
إن لوحظ الدليل المتكفل للحكم الكلي المرتب على الموضوع الكلي فهو باق ما لم ينسخ ، كما هو شأن القضايا الحقيقية ، فالحجية المنتزعة من هذا الجعل الكلي الذي لا يزول بالعصيان كذلك .
وإن لوحظ الحكم الفعلي بفعلية موضوعه ، فهو وإن كان يسقط بالعصيان ، إلاّ أن الإشكال لا يختص بالحجية المنتزعة من الحكم التكليفي ، بل الحجيّة الفعلية بمعنى الوصول الاعتباري كذلك ، إذ مع سقوط الحكم على أي حال ، لا معنى لفعلية اعتبار وصول الواقع ، كما لا معنى لاعتبار منجزية الخبر فعلاً .
نعم ، ما لا يسقط أصلاً ، سواء لوحظ الحكم الكلي أو الفعلي هي الحجية بمعنى كونه مما يحتج به المولى ، فإن مورد الاحتجاج فعلاً هو في وعاه العصيان ، فالخبر ، من أول قيامه على الحكم مما يصح الاحتجاج به عند المخالفة ولا يسقط عن هذا الشأن ، وهذا من الشواهد على أن الحجية بهذا المعنى الصالح للبقاء ، فتدبر جيداً .
إذا عرفت ما ذكرناه في معنى الحجية الاعتبارية والانتزاعية ، فاعلم :
أن الحجية المجعولة بالاعتبار حيث إنها أمر وضعي ، ليس بينه وبين الحكم الواقعي تماثل ولا تضاد .
وأما الحجية المجعولة بجعل الإنشاء الطلبي ، فالإنشاء بداعي تنجيز الواقع على فرض معقوليته أيضاً ، ليس مماثلاً ولا مضاداً للحكم الحقيقي ، أي البعث والزجر بالحمل الشائع وإن اشتركا في مفهوم البعث النسبي الإنشائي ، إلا أن أحدهما بعث بالحمل الشائع والآخر تنجيز بالحمل الشائع .
وأما الإنشاء بداعي جعل الداعي ، سواء كان على طبق المؤدى بعنوان أنه الواقع أو على طبق المؤدى بداعي إيصال الواقع بعنوان آخر ، فنفي المماثلة والمضادّة مبني على ما قدمناه في الحاشية المتقدمة ، من عدم اتصاف الحكم الواقعي بكونه بعثاً وزجراً بالحمل الشائع إلا بعد وصوله ، ولا تماثل ولا تضاد إلا بين البعثين بالحمل الشائع أو بين بعث وزجر بالحمل الشائع ، لا بينهما بالوجود الإنشائي ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى بقية الكلام(2) .
وأمّا في الاصول غير المحرزة ، فقد ذكر ما نصّه :
الإباحة إنما تنافي الإرادة والكراهة النفسانيّتين بالعرض لا بالذات ، إذ لا مقابلة بينهما ، بل الإرادة حيث إنها ملزومة للبعث ، وهو مناف بالذات للترخيص فينافي ملزومه بالعرض .
وكذا تنافيها من حيث المبدأ ، فإن الإرادة منبعثة عن كمال الملائمة للطبع ، والكراهة عن كمال المنافرة للطبع ، والإباحة تنبعث غالباً عن عدم كون المباح ملائماً ومنافراً ، وبين الملائمة وعدمها والمنافرة وعدمها منافاة بالذات ، وبين لازمهما بالعرض .
نعم ، حيث إن الإباحة هنا منبعثة عن مصلحة موجبة لها لا عن عدم المصلحة والمفسدة في الفعل ، وإلاّ لم يعقل مزاحمة بين اللاّ اقتضاء والمقتضي ، فلذا ينحصر وجه المنافاة في الجهة الأولى ، فلو أمكن إنفكاك الإرادة عن البعث الفعلي لم يكن الإباحة هنا منافية للإرادة أو الكراهة الواقعيّة بوجه لا ذاتاً ولا عرضاً ، بمعنى أنه لو لم يكن هناك تكليف فعلي من جميع الجهات والمفروض أنه المنافي للإباحة ، فلا منافاة للإباحة مع الإرادة حتى لا تنقدح بسببها ، فتدبّر جيّداً(3) .
(1) وسائل الشيعة 27 / 137 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، رقم : 1 .
(2) نهاية الدراية 3 / 123 ـ 129 .
(3) نهاية الدراية 3 / 148 .