طريق الشّيخ الاستاذ
ثمّ إنّ الشيخ الاستاذ دام بقاه بعد أنْ حلّ مشكلة الأمارات والطرق عن طريق « الطريقيّة » تبعاً للميرزا ، ومشكلة الاصول غير المحرزة بطريق المحقّق الإصفهاني ، أفاد في حلّ مشكلة اجتماع الحبّ والبغض والإرادة والكراهة ، أن متعلّق الكراهة مثلاً هو « شرب الخمر » ومتعلّق الإرادة هو « ما شك في خمريّته » فالمتعلّق مختلف ، ولا يلزم الاجتماع مع اختلاف المتعلّق .
ثم إنه أشار في الدورة اللاّحقة بأنّ له طريقاً آخر لم يذكره توفيراً للوقت .
وكأنّه أراد ما أفاده في الدّورة السّابقة ، من أنّ المشكلة في الاصول المحرزة وفي اجتماع الإرادة والكراهة ، إنما تنشأ من الالتزام بأنّ للشارع في موارد الإباحة حكماً ، فيقع الكلام في كيفية الجمع بينه وبين الحكم الواقعي ، ولكنْ يمكن القول بعدم جعل الحكم في تلك الموارد ، وتوضيحه :
إنه لابدّ من الدقّة والتأمّل لمعرفة الفرق بين لسان قوله عليه السّلام : « كلّ شيء اضطرّ إليه ابن آدم أحلّه اللّه »(1) ولسان قوله عليه السّلام : « كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام … »(2) .
قالوا : الحليّة في الأوّل واقعية ، لأن الإضطرار أمر واقعي ، وفي الثاني ظاهريّة ، لأن الشك من العوارض النفسانية الطارئة .
فنقول : كما أنّ الإضطرار هناك يتقدّم على مصلحة الواقع من باب التسهيل ، فكذلك في الثاني .
لكن فيه : أنه يستلزم التصويب .
والتحقيق أن يقال : بأنه ليس للشارع في مورد البراءة حكم أصلاً ، بل المراد من دليلها عدم الحكم ، فإذا كان : « كلّ شيء لك حلال … » ظاهراً في جعل الإباحة ، فلابدّ من رفع اليد عن هذا الظهور .
وذلك : لأنه إذا علمنا بالغرض الواقعي والمصلحة الواقعية فهو ، وإن وقع الشك في ذلك ، فتارة : تكون المصلحة بحيث يوجب المولى الاحتياط ، كما في الدماء ، واُخرى : لا ، وفي هذه الحالة الأخيرة لا حكم بالاباحة من قبل الشارع . وهذا في عالم الثبوت ممكن وإنْ كان مخالفاً لظواهر الأدلّة .
وفي عالم الإثبات ، عندنا رواية تفيد أنّ الشارع قد جعل الجهل عذراً ، فهي تصلح قرينةً لرفع اليد عن ظواهر أدلّة البراءة في ظرف الجهل والشك ، وهي :
عن أبي علي الأشعري عن محمّد بن عبد الجبار ومحمّد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان جميعاً عن صفوان عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي إبراهيم عليه السّلام قال :
سألت عن الرجل يتزوّج المرأة في عدّتها بجهالة ، أهي ممّن لا تحلّ له أبداً ؟
فقال : لا .
أما إذا كان بجهالة فليتزوّجها بعد ما تنقضي عدّتها ، وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك . فقلت : … »(3) .
فمدلولها أنه جعل الجهل عذراً للمكلّف ، سواء في الشبهات الحكميّة والموضوعيّة .
فإنْ قلت : لعلّها في جعل الجهل عذراً من حيث جواز أو عدم جواز النكاح بعد انقضاء العدّة ، لا العذر من حيث العقاب ، فلا ربط لها بباب البراءة .
قلت : هذا ظاهر الذيل ، لكن الصّدر مطلق : « قد يعذر في الجهالة بما هو أعظم منه » فيعمّ العقاب .
فإنْ قلت : لا وجه للاستدلال بها في المقام ، لأنه يتوقف على أن يندرج فيها مورد من موارد البراءة ، لأنّ هذا الرجل الجاهل إن كان شاكّاً في أنّ على المرأة المتوفى عنها زوجها أو المطلقة عدّة أوْلا ، فحكمه عدم نفوذ النكاح للاستصحاب . فلا مورد للبراءة . وإنْ كان شاكّاً في مقدار العدّة ، فيستصحب بقائها . فلا مورد للبراءة . وإنْ كانت الشبهة موضوعية ، فلا يدري هي عدّة الطّلاق وقد انقضت أو عدّة الوفاء ولم تقض ؟ فيرجع الشك إلى خروجها عن العدّة . وعليه إجراء استصحاب العدّة ، وكذا يجري الاستصحاب لو علم بأنها عدّة الوفاة أو الطلاق وجهل بكونها في العِدّة أو خرجت منها .
فعلى كلّ تقدير ، لا علاقة للرواية بباب البراءة حتى يستدلّ بها عليها .
قلت : هناك مورد ، وهو توارد الحالتين على المرأة ، بأن يقع عليها الطلاق لكنه طلاق غير المدخول بها ، ثم يقع عليها طلاق آخر هو طلاق المدخول بها ، فيقع الشك في التاريخ ، وعليها العدّة في طلاق دون الآخر ، فيتعارض الاستصحابان ويكون من موارد البراءة .
بل يكون من موارد البراءة بناءً على عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة ، كما عليه النراقي والسيد الخوئي .
وعلى الجملة : فإنّا ندّعي أنّ الحليّة المستفادة من حديث الرفع ونحوه هو : عدم إيجاب الشارع الإحتياط ، لا الحليّة التي هي أحد الأحكام الخمسة .
وعدم جعل الإحتياط لا ينافي وجود الحكم الواقعي .
وبعد ، فإنه لا ريب في وجود احتمال عدم جعل الشارع حكماً بعنوان الترخيص والحلّ في مورد قاعدة الحلّ ، وهذا الاحتمال يرفع المحذور ، لعدم الضرر في احتمال التضاد .
(1) جامع أحاديث الشيعة 14 / 516 .
(2) وسائل الشيعة 17 / 89 ، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، رقم : 4 .
(3) الكافي 5 / 427 .