رأي صاحب الكفاية
وذهب المحقق الخراساني إلى أن العلم الإجمالي مؤثّر ، لكن بنحو الاقتضاء بالنسبة إلى الموافقة والمخالفة كليهما ـ فهو موافق للشيخ في الموافقة ومخالف له في المخالفة ـ فهذا مدّعاه ، ومعنى ذلك أن للشارع الترخيص في جميع أطراف الشبهة ، وتجوز المخالفة العمليّة للتكليف المعلوم بالإجمال . فقال :
ربما يقال : إنّ التكليف حيث لم ينكشف به تمام الانكشاف وكانت مرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة ، جاز الإذن من الشارع بمخالفته احتمالاً بل قطعاً ، وليس محذور مناقضته مع المقطوع إجمالاً إلاّ محذور مناقضة الحكم الظاهري مع الواقعي في الشبهة غير المحصورة بل الشبهة البدويّة ، ضرورة عدم تفاوت في المناقضة بين التكليف الواقعي والإذن بالإقتحام في مخالفته بين الشبهات أصلاً ، فما به التفصّي عن المحذور فيهما ، كان به التفصّي عنه في القطع به في الأطراف المحصورة أيضاً كما لا يخفى .
نعم ، كان العلم الإجمالي كالتفصيلي في مجرّد الإقتضاء لا في العليّة التامّة ، فيوجب تنجّز التكليف أيضاً لولم يمنع عنه مانع عقلاً ، كما كان في أطراف كثيرة غير محصورة أو شرعاً كما في إذن الشارع في الاقتحام فيها ، كما هو ظاهر « كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه » .
وبالجملة : قضيّة صحّة المؤاخذة على مخالفته مع القطع به بين أطراف محصورة ، وعدم صحّتها مع عدم حصرها أو مع الإذن في الاقتحام ، هو كون القطع الإجمالي مقتضياً للتنجّز لا علّة تامّة .
ثم تعرّض لرأي الشيخ وقال عنه بأنه ضعيف جدّاً(1) .
أقول :
أمّا دليله على جواز المخالفة ، فتوضيحه : إن الحكم :
تارةً : فعليّ من جميع الجهات ، أي : إنّ الشارع لا يرضى بمخالفته أصلاً ، ومثل هذا الحكم لا يمكن الترخيص فيه ، بل المجعول هناك وجوب الاحتياط ، فله عليّةٌ تامّة لحرمة المخالفة العمليّة .
واخرى : ليس فعليّاً من جميع الجهات ، وهناك يمكن الترخيص في المخالفة .
والحاصل : إنه في القسم الأوّل لا يمكن جريان الأصل في الأطراف ، وفي الثاني يمكن ، فالأمر يدور مدار غرض المولى من الحكم .
وبتقريب آخر : إن الأصل لا يجري في أطراف الشبهة إلاّ مع وجود المقتضي لجريانه وعدم المانع عنه ، ولمّا كان موضوع الأصل ـ أي الشك ـ متحقّقاً في كلّ واحد من أطراف الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ، كان المقتضي موجوداً . وأمّا المانع ، فإمّا هو عقلي أو شرعي ، أمّا المانع العقليّ من اندراج أطراف الشبهة تحت إطلاقات أدلّة الاصول فهو العلم ، وتوضيح ذلك :
إنّ أدلّة الاصول العمليّة على قسمين .
فمنها : ما هو غير مغيّى بالعلم واليقين وهو منطوق بلا مفهوم ، مثل قوله عليه السلام : « رفع ما لا يعلمون » ، فإنه يرفع الحكم المجهول ، وهو بإطلاقه يشمل الشبهة البدويّة والمقرونة بالعلم ، ولا مفهوم له . فلا مانعيّة لهذا القسم .
ومنها : ما هو مغيّى بالعلم مثل : « لا تنقض اليقين بالشك بل انقضه بيقين آخر » ، و« كلّ شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام » … ومن المعلوم أنه إذا حصل العلم ارتفع الشك فلا موضوع لجريان الأصل ، وإلاّ لزم التناقض أو التضاد بين مفاد الأصل والحكم الواقعي .
يقول المحقق الخراساني : إنّ هذا القسم أيضاً يشمل موارد العلم الإجمالي ، ولا محذور ، لأنّ شرط التضادّ أو التناقض أنْ يكون الحكم الظّاهري المدلول عليه بالأصل في مرتبة واحدة مع الحكم الواقعي حتى يلزم اجتماع الضدّين أو النقيضين ، لأنّ الحكم الظاهري فعلي على جميع التقادير ، والواقعي غير فعلي كذلك .
هذا حلاًّ .
وأمّا نقضاً : فإنه لو كان العلم مانعاً ، لزم منع الاحتمال الموجود في الشبهات البدويّة عن جريان الأصل ، لأنّ احتمال اجتماع الضدّين أو النقيضين محال كالقطع بذلك ، والحال أنّ الاصول تجري في موارد الشبهات البدويّة ، فما به التفصّي عن المحذور هناك ، كان به التفصّي عنه في القطع به في الأطراف المحصورة .
والحاصل : إن العلم الإجمالي كالتفصيلي في مجرّد الاقتضاء لا في العليّة التامّة ، فيوجب تنجّز التكليف لولم يمنع عنه مانع عقلاً ، كما حصل المانع العقلي عن الاقتضاء في الشبهة غير المحصورة ، والمانع الشرعي فيما أذن الشارع في الاقتحام فيه كما هو ظاهر الخبر : « كلّ شيء لك حلال » .
(1) كفاية الاصول : 272 ـ 273 .