رأي الميرزا و الكلام حوله
ولكن الميرزا قدّس سرّه أنكر القطع المأخوذ تمام الموضوع على نحو الطريقيّة ، فالأقسام عنده ثلاثة ، فقد جاء في تقرير بحثه :
نعم ، في إمكان أخذه تمام الموضوع على وجه الطريقيّة إشكال ، بل الظاهر أنه لا يمكن ، من جهة أنّ أخذه تمام الموضوع يستدعي عدم لحاظ الواقع وذي الصورة بوجه من الوجوه ، وأخذه على وجه الطريقيّة يستدعي لحاظ ذي الطريق وذي الصورة … ولحاظ العلم كذلك ينافي أخذه تمام الموضوع . فالإنصاف أن أخذه تمام الموضوع لا يمكن إلاّ بأخذه على وجه الصفتيّة(1) .
وقد استفيد من هذا الكلام أن المحذور في نظره اجتماع اللّحاظين الاستقلالي والآلي في الشيء الواحد ، وهو محال .
فأجاب عنه المحقق العراقي(2) بما حاصله :
النقض بما إذا اُخذ القطع بعدالة زيد موضوعاً لجواز الاقتداء به ، وباجتهاده موضوعاً لجواز تقليده كما تقدم ، فإن هذا الأخذ إنما هو على نحو الكاشفية لا الصفتيّة .
وأمّا حلاًّ ، فإنّ الشيء الواحد الذي لا يجتمع فيه اللّحاظان هو المصداق الخارجي ، وأمّا مفهوم القطع ، فلا مانع من أخذه موضوعاً لحكم مع كاشفيّته عن الواقع .
أقول :
وهذا الجواب صحيح إنْ كان مراد الميرزا ما ذكر ، لكنّ الظاهر من كلامه أنّ المحذور ليس اجتماع اللّحاظين ، وإنما هو أن أخذ القطع بنحو الكاشفيّة يستلزم ثبوت الواقع ، وأخذه موضوعاً على نحو تمام الموضوع يستلزم سقوطه ، فاجتمع الثبوت والسقوط بالنسبة إلى الواقع ، وهذا هو الذي فهمه سيّدنا الاستاذ قدّس سرّه إذ قال :
أنكر المحقّق النائيني أخذ القطع تمام الموضوع بنحو الطريقية ، فذهب إلى أنه لابدّ أن يكون مأخوذاً جزء الموضوع ، فالأقسام لديه ثلاثة ، وعلّل ذلك بأن النظر الاستقلالي في القطع الطريقي يتعلق بمتعلقه وبالواقع المنكشف به وبذي الطريق ، أما القطع فهو مغفول عنه وملحوظ مرآة للغير شأن كلّ كاشف وطريق ، وأخذه في تمام الموضوع يلازم غض النظر عن الواقع وملاحظته القطع مستقلاً وهذا خلف .
ثم أجاب عن ذلك بقوله :
ولكن هذا التعليل عليل ، وهو ناش من الخلط بين مقام الجعل ومقام تعلّق القطع بشيء ، بيان ذلك : إن من ينظر إلى الكتاب بواسطة نظارته يغفل عن نظارته وإنما نظره المستقلّ متعلّق بالكتاب الذي جعل النظارة طريقاً إليه ، ولكن الشخص الذي ينظر إلى هذا الناظر ويرى كاشفية وآلية النظارة ، يستطيع أن يتعلّق نظره مستقلاًّ وغرضه بالنظارة ذاتها من دون أن يكون للكتاب أي دخل فيه .
وفي ما نحن فيه من هذا القبيل ، فإن من يتعلق نظره الاستقلالي بالمقطوع ويغفل عن القطع هو القاطع نفسه ، إذ كون القطع طريقاً لديه يلازم لحاظه آلة وبنحو المرآتية ، أما الجاعل الذي يريد أن يجعل حكماً على هذا القطع له أن يقصره نظره على القطع ، بمعنى أنه يرتب الحكم على القطع بلحاظ كشفه لكن من دون أن يكون لوجود المتعلق في الخارج أي أثر ، لتمكنه من لحاظ القطع بنحو الاستقلال لا الآلية والمرآتية ، نظير من ينظر إلى المرآة لا ليرى صورته بها ، بل ليرى جودتها وجنسها . فظهر لك الخلط بين المقامين(3) .
أقول :
والإنصاف أن ما ذكره خلاف الظاهر جدّاً .
إلاّ أن يقال في مقام الدفاع عن صاحب الكفاية : إن نظره إلى أن المقصود من القطع المجعول موضوعاً للأحكام كالحجيّة الذاتية والطريقيّة ، هو الأعم من العلم أي الصّورة الذهنية المطابقة للواقع ومن الجهل المركب ، وهذا القطع الأعم ، له حيثيّتان ، هما الصفة القائمة بالنفس وحيثية عدم احتمال الخلاف ، وهناك حيثية ثالثة هي الطريقية والكاشفية . فالقطع كرؤية الإنسان للشيء ، حيث أن الرؤية صفة قائمة بالرّائي ، تريه الشيء ولا يحتمل الإنسان الخلاف فيها ، لكن قد تتخلّف الرؤية عن الواقع .
وعليه ، ففي الجهل المركب أيضاً إرائة وطريقية وكشف ، لكنْ عن الواقع الخيالي لا الحقيقي ، فإذا كان هذا مراد المحقق الخراساني ، فالإشكال يندفع .
هكذا أفاد شيخنا دام بقاه .
لكنّ السيد الخوئي قد أورد الإشكال على الكفاية بنفس التقريب الذي ذكره الاستاذ ، وهذا نص عبارته :
وأمّا القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الطريقية فلا يمكن أخذه تمام الموضوع ، إذ معنى كونه تمام الموضوع أنه لا دخل للواقع في الحكم أصلاً ، بل الحكم مترتب على نفس القطع ولو كان مخالفاً للواقع ، ومعنى كونه مأخوذاً بنحو الطريقية أن للواقع دخلاً في الحكم وأخذ القطع طريقاً إليه ، فيكون الجمع بين أخذه في الموضوع بنحو الطريقية وكونه تمام الموضوع من قبيل الجمع بين المتنافيين . فالصحيح هو تثليث الأقسام …(4) .
فقد أورد الإشكال بلحاظ الواقع ثبوتاً وسقوطاً ، وأشار بكلمة « ولو كان مخالفاً للواقع » إلى صورة الجهل المركب الذي ذكره الاستاذ .
فالذي نراه ورود إشكال الميرزا ومن تبعه ، وأنّ دفاع المحقّق العراقي وسيّدنا الاستاذ وشيخنا دام بقاه عن الكفاية لا يجدي .
(1) فوائد الاصول 3 / 11 .
(2) نهاية الأفكار ق 1 ج 3 ص 15 .
(3) منتقى الاصول 4 / 69 ـ 70 .
(4) مصباح الاصول 2 / 33 .