جواب صاحب الكفاية
وقال في الكفاية :
لا يذهب عليك إنه ليس في المعصية الحقيقيّة إلاّ منشأ واحد لاستحقاق العقوبة وهو هتك واحد ، فلا وجه لاستحقاق عقابين متداخلين كما توهّم ، مع ضرورة أن المعصية الواحدة لا توجب إلاّ عقوبة واحدة . كما لا وجه لتداخلهما على تقدير استحقاقهما كما لا يخفى ، ولا منشأ لتوهّمه إلاّ بداهة أنه ليس في معصية واحدة إلاّ عقوبة واحدة ، مع الغفلة عن أنّ وحدة المسبب تكشف بنحو الإن عن وحدة السبب(1) .
وقال في تعليقة الفرائد :
إنما يكون تعدّد العقوبة أو المثوبة استحقاقاً بتعدد إظهار الطغيان والكفران ، أو الموافقة والطّاعة ، ووحدتها بوحدته ، وليس في كلّ واحد من المعصية والتجرّي بمجرد القصد أو مع العمل أو الإطاعة والانقياد كذلك ، إلاّ إظهار واحد ، فالإنسان من أوّل ما صار بصدد طاعة أو معصية ، إلى أنْ فرغ منها أو يرجع بفسخ عزمه مطلقاً ، فلم يظهر الانقياد له تعالى أو التجرّي عليه تعالى ، إلاّ إظهاراً واحداً وإنْ اختلف ما به الإظهار فيهما طولاً وقصراً ، كما هو الشأن أيضاً في أفراد ما أمر به أو نهى عنه إذا اختلفت كذلك ، فلا يكون الطول فيهما بموجب لتعدّد الطويل منها ولو كان بمقدار أفراد كثيرة قصيرة ، فلا يكون شرب القدح من الخمر إذا كان في مجلس واحد بحيث يعدّ شرباً واحداً إلاّ كشرب جرعة منها .
وبالجملة ، ملاك العقوبة والمثوبة عن استحقاق هو : إظهار المخالفة والشقاق وإظهار الإنقياد له والوفاق ، وهو في كلّ واحد من المعصية والإطاعة والتجرّي والإنقياد بأنحائهما واحد . ولا ينافي ذلك تفاوت مقدار المثوبة والعقوبة في المعاصي والطّاعات ، وكذا في أنحاء التجرّي والانقياد ، فإنه بحسب تفاوت ما قصده في الصغر والعظم(2) .
أقول :
لا يخفى أنّ هذا البحث عقلي ، وأنه عن استحقاق العقاب على الفعل المتجرّى به وعدم استحقاقه عقلاً ، أمّا نفس العقاب فهو واحد بالضرورة … .
وما ذكره المحقق الخراساني ففيه نظر ، لأنّ ما نحن فيه يفترق عمّا ذكره من الطول والقصر ، وهو كلام صحيح ، ففي مثل الخط الواحد ، لا يضرّ بوحدته طوله وقصره ، لكن فيما نحن فيه عزمٌ على المعصية ثمّ فعلٌ خارجي ، فهو وإنْ كان صادراً عن العزم إلاّ أنه غير العزم ، فإنه مقدّمة والفعل ذو المقدّمة . وبعبارة اخرى : ليس الفعل الخارجي استمراراً للعزم ، بخلاف الخطّ الطويل فإنه استمرار للقصير ، فالقياس مع الفارق . هذا أوّلاً .
وثانياً : إنّ العزم من الامور النفسانيّة ، ولا يعقل الاتّحاد بين النفسانيّات والخارجيّات .
فإن قلت : المناط هو الوحدة العرفيّة .
قلنا : لا اتّحاد عند العرف بين المقدّمة وذي المقدّمة . هذا أوّلاً .
وثانياً : إنّ الرجوع إلى الفهم العرفي في أمثال المقام لا وجه له ، إذ البحث ـ كما ذكرنا ـ عقلي ، وموضوع حكم العقل بالقبح واستحقاق العقاب هو الطغيان على المولى ، فإذا تعدّد تعدّد حكمه ، ولا دخل للعرف في ذلك .
هذا كلّه عقلاً .
وأمّا شرعاً ، فظاهر النصوص ـ كصحيحة جميل المتقدّمة ـ هو استحقاق العذاب المتعدّد ، وإلاّ لما كان للامتنان بالعفو معنىً .
وتلخّص :
إن الحق استحقاق العقاب على العزم والفعل معاً ، والعقل لا يرى مانعاً عن ذلك .
نعم ، لا تعدّد في السّيرة العقلائيّة ، لكنّ السرّ في عدم التعدّد هنا شيء آخر ، وهو : إن المناط في استحقاق العقاب في بناء العقلاء هو تفويت غرض المولى ، فإذا كان الغرض المترتب على المقدّمة وذيها واحداً استحق العقاب الواحد ، وإن كانت المقدمة وذيها من مقولتين . فتدبّر .
(1) كفاية الاصول : 262 ـ 263 .
(2) درر الفوائد في الحاشية على الفرائد : 39 ـ 40 .