تنـبيـهات
الأول : في ما ذكره المحقق الخراساني في حاشية الرسائل
قد ذكر المحقق الخراساني في حاشية الرسائل وجهاً لقيام الأمارات والاستصحاب مقام القطع الموضوعي الكشفي ، بناءً على تنزيل المؤدّى بمنزلة الواقع .
وخلاصة ما ذكره هو :
إنّ دليل الأمارة والاستصحاب وإنْ تكفّلا جعل المؤدّى والمستصحب وتنزيلهما منزلة الواقع ، لكنّ مقتضى الملازمة كون القطع بهما ـ بلحاظ أنهما منزَّلان منزلة الواقع ـ بمنزلة القطع بالواقع ، فثبت أحد جزئي الموضوع بنفس دليل الاعتبار والآخر بالملازمة وتمّ المدّعى(1) .
وقد وقع الكلام بين الأعلام في مراده من هذا الوجه والملازمة المذكورة فيه :
فقيل : المقصود هو الملازمة العقليّة وبنحو دلالة الاقتضاء ، إذ التعبّد بأحد الجزئين لا يصح من دون التعبّد بالجزء الآخر ، لأنّ الدليل الدالّ على التعبد بأحدهما يدلّ بدلالة الاقتضاء وصوناً لكلام الحكيم عن اللغويّة ، على التعبّد بالجزء الآخر(2) .
وقيل : المقصود هو الملازمة العرفيّة ، لأن الدليل الدالّ على التعبّد بالواقع وتنزيل المؤدّى منزلته ، يدلّ عرفاً بالالتزام على تنزيل القطع بالواقع الجعلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي(3) .
وقيل : المقصود هو الملازمة العرفيّة والعقليّة معاً ، توضيحه :
إنّ وفاء خطاب واحد وإنشاء واحد بتنزيلين وإنْ كان مستحيلاً ، إلاّ أن تنزيلين بإنشائين في عرض واحد يدلّ دليل الاعتبار على أحدهما بالمطابقة وعلى الآخر بالالتزام ، ليس محالاً . وهنا كذلك ، لدلالة دليل الأمارة مثلاً على ترتيب آثار الواقع مطلقاً ومنها الأثر المترتّب على الواقع عند تعلّق القطع به حتى في صورة كون القطع تمام الموضوع ، إذ لمتعلّقه دخل شرعاض ولو بنحو العنوانية في جميع المراتب .
وهذا التنزيل وإنْ كان يقتضي عقلاً تنزيلاً آخر ، حيث أن الواقع لم يكن له في المقام أثر بنفسه حتى يعقل التعبّد به هنا وتنزيل المؤدّى منزلة الواقع بلحاظه ، لكنه لا يقتضي عقلاً أنْ يكون المنزل منزلة الجزء الآخر هو القطع بالواقع الجعلي ، لإمكان جعل شيء آخر مكانه ، إلاّ أنه لا يبعد عرفاً أنْ يكون هو القطع بالواقع الجعلي .
فصون الكلام عن اللغويّة بضمّ الملازمة العرفيّة يدلّ على تنزيل آخر في عرض هذا التنزيل للجزء الآخر(4) .
أمّا شيخنا الاستاذ دام بقاه ، فقرّب الوجه بقوله :
إنّ الدليل القائم على اعتبار الأمارة والاستصحاب له دلالتان .
إحداهما : الدلالة المطابقيّة ، حيث أنه يدلّ بالمطابقة على تنزيل مؤدّى الأمارة والمستصحب منزلة الواقع ، لأنّ أثر القطع هو الكشف عن الواقع والطريقيّة إليه ، فإذّا نُزّل المؤدّى بمنزلة الواقع ، كان التنزيل بحسب الكاشفية والطريقيّة فيكون المنزّل عليه هو الواقع والمنزّل هو المؤدى والمستصحب .
والثانية هي : الدلالة الإلتزاميّة ، بأنْ يكون دليل الاعتبار دالاًّ على التنزيل بمنزلة القطع الذي له دخل في موضوع الحكم ، من جهة الملازمة العرفيّة بين تنزيل المؤدّى والمستصحب منزلة الواقع وبين تنزيل الأمارة والشكّ منزلة الواقع ، لأنّ المفروض كون التنزيل من أجل الأثر الشّرعي ، فلابدّ من الالتزام بدلالة دليل تنزيل المؤدّى والمستصحب منزلة الواقع على تنزيل الأمارة والشك في البقاء منزلة القطع بالواقعي الحقيقي ، دلالةً إلتزاميّةً من باب دلالة الاقتضاء ، إذْ لولا هذه الدلالة يلزم لغوية دليل التنزيل .
ومثاله ـ كما تقدّم سابقاً ـ ما لو ورد في الخطاب : إذا علمت بوجوب الصّلاة وجب عليك التصدّق بدينار ، فالموضوع لوجوب التصدق مركّب من جزئين هما العلم ووجوب الصلاة ، فإذا أخبر العادل بوجوب الصّلاة نزّل ما أخبر به منزلة الوجوب الواقعي ويكون هذا التنزيل مستلزماً لتنزيل خبر العادل به بمنزلة القطع بالوجوب الواقعي ، فتحقق تنزيلان أحدهما في ناحية وجوب الصّلاة والآخر في ناحية العلم ، وذاك تنزيل مطابقي وهذا التزامي ، ولولم يتم التنزيل الثاني لزم لغويّة التنزيل الأول ، لأن المفروض تركّب الموضوع من العلم ووجوب الصلاة ، ولا يترتب الأثر الشرعي إلاّ بتماميّة التنزيلين .
وإذا تعدّدت الدلالة ـ على ما ذكر ـ لم يلزم اجتماع اللحاظين ، لوضوح أن لزوم ذلك مبني على وحدة الدلالة .
(1) درر الفوائد في حاشية الفرائد : 7 .
(2) حاشية الشيخ عبدالحسين الرّشتي على الكفاية 2 / 20 .
(3) مصباح الاصول : 41 .
(4) نهاية الدراية 3 / 64 .