تنبيهات التجرّي
الأول : في القول بأن الحسن والقبح من القضايا المشهورة
قد عرفت أن المحقّق الإصفهاني قد خالف صاحب الكفاية في قوله باستحقاق العقوبة على العزم على المعصية ، وأشكل على ذلك بما تقدم نقله مع الجواب عنه .
وقد كان ممّا ذكره هناك : أن حكم العقل باستحقاق العقاب ـ من جهة كونه هتكاً لحرمة المولى وجرأةً عليه ـ هو من الأحكام العقليّة الداخلة في القضايا المشهورة التي تطابقت عليها آراء العقلاء ، لعموم مصالحها وحفظ النظام وبقاء النوع بها ، ثم قال :
وأمّا عدم كون قضيّة حسن العدل وقبح الظلم ـ بمعنى كونه يستحقّ عليه المدح أو الذم ـ من القضايا البرهانية ، فالوجه فيه :
إنّ موادّ البرهانيات منحصرة في الضروريات الست . فإنّها :
إمّا أوليّات : ككون الكلّ أعظم من الجزء .
أو حسيّات ، سواء كانت بالحواسّ الظاهرة المسمّاة بالمشاهدات ، ككون هذا الجسم أبيض ، أو هذا الشيء حلواً ، أو بالحواسّ الباطنة المسمّاة بالوجدانيّات ، وهي الامور الحاضرة بنفسها للنفس ، كحكمنا بأنّ لنا علماً وشوقاً وشجاعة .
أو فطريّات ، وهي القضايا التي قياساتها معها ، ككون الأربعة زوجاً ، لأنها منقسمة بالمتساويين ، وكلّ منقسم بالمتساويين زوج .
أو تجربيّات ، وهي الحاصلة بتكرر المشاهدة ، كحكمنا بأن سقمونيا مسهل .
أو متواترات ، كحكمنا بوجود مكة .
أو حدسيّات موجبة لليقين ، كحكمنا بأنّ نور القمر مستفاد من الشمس .
قال :
ومن الواضح أنّ استحقاق المدح والذم بالإضافة إلى العدل والظلم ، ليس من الأوّليّات ، بحيث يكفي تصوّر الطرفين في الحكم بثبوت النسبة ، كيف ، وقد وقع النزاع فيه من العقلاء . وكذا ليس من الحسيّات بمعنييها ، وليس من الفطريات ، إذ ليس لازمها قياس يدلّ على ثبوت النسبة .
قال : وأما عدم كونه من التجربيات والمتواترات والحدسيّات ، ففي غاية الوضوح .
فثبت أن أمثال هذه القضايا غير داخلة في القضايا البرهانية ، بل من القضايا المشهورة .
وأمّا حديث كون حسن العدل وقبح الظلم ذاتيّاً ، فليس المراد من الذاتي ما هو المصطلح عليه في كتاب الكليّات ، لوضوح أن استحقاق المدح والذم ليس جنساً ولا فصلاً للعدل والظلم ، وليس المراد منه ما هو المصطلح عليه في كتاب البرهان ، لأنّ الذاتي هناك ما يكفي وضع نفس الشيء في صحة انتزاعه منه ، كالإمكان بالإضافة إلى الإنسان مثلاً ، والاستحقاق المزبور ليس كذلك ، لأنّ سلب مال الغير ـ مثلاً ـ مقولة خاصّة بحسب أنحاء التصرّف ، وبالإضافة إلى كراهة المالك الخارجة عن ذات التصرّف ينتزع منه أنه غصب ، وبالإضافة إلى ترتب اختلال النظام عليه بنوعه ـ وهو أيضاً خارج عن مقام ذاته ـ ينتزع منه أنه مخلّ بالنظام وذو مفسدة عامة ، فكيف ينتزع الاستحقاق ـ المتفرع على كونه غصباً وكونه مخلاًّ بالنظام ـ عن مقام ذات التصرف في مال الغير ؟
بل المراد بذاتيّة الحسن والقبح : كون الحكمين عرضاً ذاتيّاً ، بمعنى أنّ العدل بعنوانه والظلم بعنوانه يحكم عليهما باستحقاق المدح والذم من دون لحاظ اندراجه تحت عنوان آخر ، بخلاف سائر العناوين ، فإنها ربما تكون مع حفظها معروضاً لغير ما يترتب عليه لو خلّي ونفسه ، كالصّدق والكذب ، فإنهما مع حفظ عنوانهما في الصّدق المهلك للمؤمن تحت الظلم والكذب المنجي للمؤمن يترتب استحقاق الذم على الأول بلحاظ اندراجه تحت الظلم على المؤمن ، ويترتب استحقاق المدح على الثاني لاندراجه تحت عنوان الإحسان إلى المؤمن ، وإنْ كان لو خلّي الصّدق والكذب ونفسهما ، يندرج الأوّل تحت عنوان العدل في القول ، والثاني تحت عنوان الجور(1) .
(1) نهاية الدراية 3 / 29 ـ 32 .