تقريب الميرزا الشيرازي
وجاء في تقرير بحث السيّد الميرزا الشيرازي الكبير رحمه اللّه ما نصّه :
أقول قبل الخوض في المقام : ينبغي تمهيد مقال ، فاعلم :
إن المراد بالإمكان المتنازع فيه إنما هو الإمكان العام وهو المقابل للامتناع ، إذ النزاع إنما هو مع من يدّعي الامتناع ، فالغرض إنّما هو مجرّد نفي الامتناع الأعمّ من وجوب التعبّد بالظنّ في بعض الموارد ، ومرجع القولين إلى دعوى حسن التعبّد به وقبحه ، لا إلى قدرة الشارع على التعبّد به وعدمها ، فيرجع النزاع إلى أنه هل يحسن من الشارع التعبّد به أو يقبح ، كما يظهر من دليل مدّعي الامتناع ؟
والظاهر أنّه إنّما يدّعي الامتناع العرضيّ لا الذاتيّ ، كما يظهر من احتجاجه عليه بلزوم تحليل الحرام وتحريم الحلال ، فإنه ظاهر ـ بل صريح ـ في أنّ القبح التعبّد بالظنّ إنّما هو من جهة استلزامه لذلك المحذور ، لا مطلقاً ، فعلى هذا لا ينفع مدّعي إمكانه إثباته بالنظر إلى ذاته ، بل عليه إمّا دفع ذلك الاستلزام ، أو منع قبح اللاّزم .
ثمّ المراد بالتعبّد بالظن هنا ، ليس اعتباره والحكم بالأخذ به من باب الموضوعيّة ; لأنه بهذا المعنى لا يرتاب أحد في إمكانه ، فإنه ـ حينئذ ـ كسائر الأوصاف المأخوذة كذلك ، وهو لا يقصر عن الشكّ من هذه الجهة ، بل إنّما هو اعتباره على وجه الطريقية لمتعلّقه ; بمعنى جعله حجّة في مؤدّاه كالعلم وتنزيله منزلته ، بإلغاء احتمال خلافه في جميع الآثار العقليّة للعلم من حيث الطريقيّة .
وبعبارة اُخرى جعله طريقاً إلى متعلّقه كالعلم الذي هو طريق عقليّ إلى متعلّقه ، والمعاملة معه معاملة العلم الطريقيّ وترتيب آثار طريقيّة عليه ، من معذوريّة المكلّف معه في مخالفة التكليف الواقعيّ على تقدير اتّفاقها بسبب العمل به ، كما إذا كان مؤدّاه نفي التكليف مع ثبوته في مورده واقعاً ، فلم يأت المكلّف بذلك المحتمل التكليف استناداً إليه ، ومن المعلوم معذوريّته وصحّة مؤاخذته وعقابه عليها إذا كان مؤدّاه ثبوت التكليف ، وكان الواقع ثبوته ـ أيضاً ـ ولم يأت المكلّف بذلك الذي قام هو على التكليف به .
فيكون هو على تقدير اعتباره حجّة قاطعة للعذر فيها بين الشارع والعباد على الوجه المذكور كالعلم ، ويكون الفرق بينهما مجرّد كون حجّيّة العلم بهذا المعنى بحكم العقل ، وكون حجيته بحكم الشارع وجعله ، فيكون كالعلم قاطعاً لقاعدتي الاشتغال والبراءة العقليّتين إذا قام على خلافهما ، فإنّ العقل إنّما يحكم في الاُولى بلزوم الاحتياط تحصيلاً للأمن من عقاب مخالفة الواقع بعد ثبوت التكليف به ، وفي الثانية بجواز تركه ; نظراً إلى قبح العقاب بلا بيان الذي هو الواقع لاحتمال العقاب ، وكلّ واحد من حكميه ذينك تعليقيّ بالنسبة إلى جعل الشارع للظنّ المسبب المشكوك في الموردين طريقاً وحجّة في إثباته ، إذ معه يرتفع موضوعا القاعدتين ; لأنه بعد اعتباره يكون حجّة في إثبات التكليف بمحتمله في الثانية ، وبياناً له فلا يعذر ( معه ) المكلّف في مخالفته على تقديرها وفي كون الواقع هو خصوص مؤدّاه في الاُولى ، فيعذر المكلف في مخالفته على تقدير كونه مع إتيانه بمؤدّاه ، فمع إتيانه بمؤدّاه ـ حينئذ ـ لا يحتمل العقاب على مخالفة الواقع ; حتى يحكم العقل بلزوم تحصيل الأمن منه .
وبالجملة : النزاع في المقام إنّما هو في إمكان التعبّد بالظنّ على ( وجه ) الطريقية بالمعنى الذي عرفت .
ويظهر ذلك ـ أيضاً ـ من احتجاج منكره باستلزامه لتحليل الحرام وتحريم الحلال ; لأنه ـ على تقدير اعتباره من باب الموضوعيّة ـ لا حرمة واقعاً فيما إذا كان مؤدّاه هو الإباحة ، ولا إباحة فيه إذا كان مؤدّاه هو الحرمة ، وإنّما يبقى الواقع على حاله التي كان عليها بدونه على تقدير اعتباره من باب الطريقية المحضة .
ومن هنا ظهر : أنه لا مجال لردّ المنكر بإمكان التعبّد بالظن على وجه التصويب ، لأنه معنى اعتباره من باب الموضوعية ، ولا كلام فيه .
إذا عرفت ذلك فاعلم : أنّ المعروف هو الإمكان ، وهو الحق الذي ينبغي المصير إليه .
لنا : عدم القبح في التعبّد بالظن على الوجه المذكور ، حتّى مع تمكّن المكلّف من تحصيل نفس الواقع على ما هو عليه ; لأنّ غاية ما يتصوّر منشأ للقبح أحد اُمور على سبيل منع الخلوّ ، والذي يقتضيه النظر عدم صلاحيّة شيء منها لذلك .
توضيح توهّم قبح التعبّد به : أنه لا ريب في أنّ الظنّ ليس مصادفاً للواقع دائماً ، وإلاّ لم يكن ظنّاً ، فحينئذ إذا تعبّدنا الشارع به والسلوك على طبقه على الإطلاق ـ كما هو المفروض ـ يلزم فيه فيما إذا خالف الواقع ، أحد اُمور ثلاثة ـ لا محالة ـ إن لم يلزم كلّها :
أحدها : نقض غرضه من التكليف الواقعي الموجود في محلّه الذي أدّى هو إلى نفيه وتفويت العمل على طبقه ، فإنّ الغرض منه : إما إيجاد خصوص الفعل ، فالمفروض تفويته بترخيصه العمل بما أدّى إلى عدمه ، وإما وصول مصلحة إلى المكلّف ، فالمفروض ـ أيضاً ـ تفويتها عليه .
وثانيها : تفويت مصلحة الواقع على المكلّف ، كما إذا كان الفعل في الواقع واجباً أو مندوباً ، وأدّى الظنّ إلى إباحته أو كراهته أو حرمته أو إيقاعه في مفسدة الواقع ، كما إذا كان الفعل واقعاً حراماً ، وأدّى الطريق إلى إباحته أو وجوبه أو استحبابه ، وكلاهما خلاف اللّطف ، فيكونان قبيحين ، والنسبة بينهما وبين الأمر الأوّل هو العموم من وجه ، إذ قد ( لا ) يكون الغرض خصوص إيجاد الفعل ، بل يكون الغرض إيصال المكلّف إلى مصلحته أو صونه عن مفسدته .
وثالثها : التناقض ، فإنه إذا كان الظنّ مخالفاً للواقع ، فيجتمع في مورده حكمان متناقضان ، أحدهما : مؤدى الظن ، والآخر : مؤدّى الخطاب الواقعي ، من غير فرق في ذلك بين أن يكون مؤدّى الظنّ هو الوجوب ، مع كون الحكم الواقعي هو الحرمة ، أو العكس ، وبين أن يكون مؤدّاه الإباحة أو الاستحباب ، مع كون الحكم الواقعيّ هو الحرمة ، أو العكس ; لأنّ الأحكام الخمسة بأسرها متناقضة ، يمتنع إجتماع اثنين منها في مورد واحد ولو مع تعدّد الجهة ، كما هو الحال في المقام ; نظراً إلى أنّ الحكم الظاهري في محلّ الفرض إنما جاء من جهة قيام الظنّ فيه عليه …(1) .
(1) تقريرات بحث الميرزا الشيرازي 3 / 351 ـ 354 .