تفصيل المحقق النائيني
وفصّل الميرزا بين التصرّف في نفس القطع والتصرّف في متعلّقه ، فمنع الأوّل وأجاز الثاني … فإنه ليس للشارع أنْ يقول : لا ترتّب الأثر على قطعك ، ولكنْ له أن يقول : إنّ أحكامي محدودة بما يستفاد من الكتاب والسنّة ، وأمّا ما يستدلّ به عليها من خارجهما فلا أثر له .
وبعبارة اخرى : للشارع أن يقيّد المراد لا القطع بالمراد ، فليس له أن يقول : لا ترتّب الأثر على القطع بالحكم الحاصل من غير الكتاب والسنّة ، لأنّ حجيّة القطع ذاتيّة ، ولكنّ يمكن أن يقول : كلّ حكم من أحكام الكتاب والسنّة قطعت به ، وجب عليك ترتيب الأثر على قطعك به .
وقد ذكر لتقريب مراده في المقام مقدّمات ثلاث(1) .
المقدّمة الاولى : إنّه لا يمكن أخذ القطع بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم لاستلزامه الدور ، لأنّ القطع طريق إلى متعلّقه بالذات ، فالقطع بحكم متوقف على تحقّق الحكم توقف الانكشاف على المنكشف ، فالحكم متقدّم في الرتبة على القطع ، فلو أخذ القطع في موضوع الحكم لزم تأخر الحكم عن القطع ، وهذا هو الدور .
المقدّمة الثانية : إنه قد تقرّر ـ في بحث التعبّدي والتوصّلي ـ أن استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق ، لأن التقابل بينهما من قبيل العدم والملكة ، فكلّ مورد لا يكون قابلاً للتقييد فهو غير قابل للإطلاق ، فلا يكون هناك تقييد ولا إطلاق .
ونتيجة المقدّمتين : إنّ الأحكام الشرعيّة مهملة بالإضافة إلى علم المكلّف وجهله ، لأنّ تقييدها بالعلم بها غير ممكن بمقتضى المقدّمة الاولى ، وإطلاقها بالنسبة إلى العلم والجهل بها غير ممكن بمقتضى المقدمة الثانية . فتكون مهملة ، لأنّ الملاك إمّا أن يكون في جعل الحكم لخصوص العالم به ، فلابدّ من تقييده به ، وإمّا أنْ يكون في الأعم من العالم والجاهل ، فلابدّ من تعميمه ، لكنْ تقدّم في المقدّمتين عدم إمكان التقييد والإطلاق ، ولمّا كان الإهمال في مقام الثبوت غير معقول ، فلابدّ من علاج ، وهو ما ذكره في :
المقدّمة الثالثة : من أنّ للشارع في مثل هذه الموارد جعلاً ثانويّاً يعبّر عنه بمتمّم الجعل ، فإمّا أنْ يقيّد به الحكم بالعلم ، فيسمّى بنتيجة التقييد ، أو يعمّم به الحكم ، فيسمّى بنتيجة الإطلاق … وحينئذ ، لا يلزم الدّور ، لأنّ متعلّق الجعل الأوّل هو الحكم على نحو الإهمال ، ومتعلّق الثاني هو التقييد بالعالم أو الإطلاق ، ومع تغاير المتعلّقين لا يلزم الدور .
وقد وقع في الشريعة تخصيص الحكم وتقييده بالعلم في مورد الجهر والإخفات والقصر والإتمام ، ونلتزم فيهما بنتيجة التقييد ـ بمقتضى الأدلّة الشرعيّة ـ أمّا في غيرهما فيؤخذ بنتيجة الإطلاق ، بمقتضى العمومات الدالّة على أنّ الأحكام الشرعيّة مشتركة بين العالم والجاهل .
فظهر : أنّ من الممكن تقييد الحكم بالقطع الحاصل من سبب خاصّ ـ كالكتاب والسنّة ـ عن طريق متمّم الجعل ، والمنع من العمل بالقطع بالحكم الحاصل من غير ذلك … .
إلاّ أنّ الكلام في وقوع ذلك في الشريعة ، فإن مورده قليل جدّاً ، كالقطع الحاصل من القياس ، على ما يظهر من رواية أبان .
(1) اُنظر : مصباح الاصول : 57 .