المناقشة مع الميرزا
أوّلاً : إن الإنبعاث في جميع الموارد من البعث ، والدّاعي للإطاعة فيها هو أمر المولى ، نعم ، للعلم والإحتمال دخل في الدّاعويّة ، لكنّ الدّاعي والمحرّك هو الأمر ، فإذا أتى بالعمل بداعي الأمر فقد امتثل ، ولا فرق بين الموارد .
وفيه : إنّ الأمر ـ وكذا النهي ـ له وجود قائم بنفس الآمر والناهي ، فتارةً : يتحقّق له صورة ذهنيّة ، واخرى : لا ، وإذا تحقّقت فتارةً : لا يحتمل معها الخلاف واخرى : يحتمل ، وعلى الأوّل ، فتارةً : تكون الصّورة مطابقةً للواقع ، واخرى : مخالفةً له .
وعلى كلّ حال ، فإن التحرّك يكون دائماً من الصّورة الخارجيّة .
إنّ حكم الأمر والنهي حكم سائر الأشياء ، فإنّ الذي يحرّك العطشان ، ليس الوجود الخارجي للماء ، بل الصّورة الذهنيّة له .
والحاصل : إنه ليس الداعي هو الأمر بنفسه ، بل الدّاعي هو الصّورة النفسانيّة ، وإلاّ يلزم خارجيّة النفساني أو نفسانيّة الخارج ، وكلاهما غير معقول . فما أفاده صاحب المستمسك(1) مردود .
ثانياً : إن الإنقياد للمولى حسن ، إلاّ إذا طرأ عليه عنوان آخر ، فهو كالصّدق فإنّه حسن عقلاً إلاّ إذا استلزم هلاك المؤمن مثلاً ، فإنّه مع طرّو هذا العنوان يصير قبيحاً .
وعليه ، فإن العمل الإحتياطي لمّا كان انقياداً للمولى فهو حسن ، فإنْ كان التمكن من الإطاعة التفصيليّة موجباً لقبح الإطاعة الإجماليّة ، تمّ الاستدلال المذكور ، لكنّ ذلك باطل قطعاً ، فإنّ التمكن من الامتثال التفصيلي ليس مثل لزوم هلاك المؤمن ليكون الامتثال الإجمالي قبيحاً … كما أنّ حسن الإحتياط ليس متقوّماً بعدم التمكن من الإمتثال التفصيلي … وحينئذ ، يكون حسنه والإنقياد به بلا مزاحم ، فيتحقق به الإمتثال ، سواء أمكن الإمتثال التفصيلي أوْلا . قاله المحقق الإصفهاني(2) .
وفيه : إن هذا سهو من قلمه ، لأن الانقياد يقابله التجرّي ، وقد ذكر سابقاً أن قبح التجرّي هو من باب لزوم هتك المولى ، والهتك ظلمٌ ، فيكون الانقياد له حسناً وهو عدل ، وحسن العدل ذاتيُّ له وقبح الظلم ذاتي له كذلك . فقياس الانقياد على الصّدق غير صحيح ، وقد قرّر هو رحمه اللّه أن حسن الصّدق اقتضائي وقبح الكذب اقتضائي ، بخلاف العدل والظلم ، فإن الحسن والقبح ذاتيّان .
هذا بالنسبة إلى القياس المذكور في كلامه .
وأمّا أصل المطلب ، فإن الانقياد ـ مثل الإطاعة ـ موضوع لحكم العقل بالحسن وهو حسن ذاتي ، لأن الانقياد عدل في العبوديّة ، كما أنّ التجرّي ظلم في العبوديّة . هذا من جهة .
ومن جهة اخرى : فإنّ العمل تارةً : توصّلي ، واخرى : تعبدي . أمّا التوصّلي فخارج عن البحث ، وأمّا التعبّدي ، فإنّ العقل ـ الحاكم في الباب ـ يحكم بلزوم الإتيان بالعمل مضافاً إلى المولى ، وإذا كان العقل يكتفي في تحقق العباديّة بإضافة العمل إلى المولى ، فلا فرق بين الإضافة التفصيلية والإجمالية ، إن لم يكن الإتيان بالعمل بداعي احتمال أمر المولى أقوى في المقربيّة .
وهذا هو الجواب الصحيح عن كلام الميرزا .
ثالثاً : إنه إنْ احتمل دخل الإمتثال التفصيلي في حصول الغرض ، فإنّ هذا الاحتمال يرتفع بحديث الرفع ، توضيحه :
إنّ المولى إذا كان غير متمكّن من البيان بالأمر الأوّل ، لكون الإمتثال التفصيلي متأخّراً في الرتبة عن مرتبة تعلّق الأمر ، فقد كان بإمكانه بيان ذلك بالأمر الثانوي ، فيكون مجرى حديث الرفع ، لأن ذلك كان ممّا يمكن وضعه ، فهل هو موضوع أوْلا ؟ رفع ما لا يعلمون .
وهذا الإشكال من المحقق الإصفهاني أيضاً(3) .
وفيه : هذا الإشكال نشأ من عدم التدبر في كلام الميرزا . لقد قاس الإصفهاني اعتبار الامتثال التفصيلي على اعتبار قصد الوجه ، وأنّ البراءة تجري هنا كما جرت هناك . وذهب الإصفهاني إلى إمكان اعتبار الإمتثال التفصيلى بالأمر الثانوي .
لكن الميرزا قال في الدّورة الاولى : بأنه لا يقاس الإمتثال التفصيلي بمسألة اعتبار قصد الوجه ، للفرق بينهما ، لأنّ قصد الوجه يمكن أخذه في المتعلّق بالأمر الثانوي ، أي بنتيجة التقييد يمكن تقييد العمل بقصد الوجه ، وإنْ كان قصد الوجه متأخّراً رتبةً ، ومع الشك تجري البراءة ، لدوران الأمر بين الأقل والأكثر ، لكنّ هذا لا يجري في اعتبار الإمتثال التفصيلي ، لأنّ الأمر فيه دائر بين التعيين والتخيير ، ومقتضى القاعدة الأوّل .
هذا كلامه في الدّورة الاولى(4) .
أمّا في الثانية(5) ، فقد طرح هذه المسألة ، وذهب إلى عدم جواز البراءة من جهة أنها إنما تجري فيما يكون وضعه بيد الشّارع ، وقضيّة الإمتثال التفصيلي ترجع إلى كيفية الطّاعة والحاكم فيها هو العقل ، فلا وضع فيها للشارع ، لا تأسيساً ولا إمضاءً ، وما كان كذلك فلا يرفع .
فالإشكال على الميرزا مندفع بما ذكره في الدّورتين .
ورابعاً : أشكل المحقق العراقي(6) : بأنّ قول الميرزا إن تقييد المتعلّق بمرتبة الإمتثال عقلي ، غير صحيح ، بل هو شرعي ، لأنّ غرض المولى إنْ كان قائماً في الواقع بكيفية معيّنة من العمل ، فإنّ كون غرضه بالنسبة إلى الإمتثال التفصيلي مهملاً محال ، فإنْ كان للامتثال التفصيلي دخل في الغرض فهو مقيّد وإلاّ فمطلق .
والحاصل رجوع الأمر إلى مرحلة الاشتغال ، لأنه يتعلّق بكيفية اشتغال الذمّة بالتكليف ، خلافاً للميرزا ، إذ أرجعه إلى مرحلة الإطاعة والإمتثال ، حيث الحاكم هو العقل … وإذا كان راجعاً إلى مرحلة الاشتغال ، فإنّه من الممكن أن يبيّن الشارع أنه يريد العمل عن اجتهاد أو تقليد ، وإذْ لم يبيّن ، فقاعدة قبح العقاب بلا بيان جارية .
وهذا الإشكال قوي .
خامساً : وأشكل الاستاذ دام بقاه على الميرزا : بأنّه إذا كان الحاكم في مرحلة الامتثال والفراغ هو العقل ، إلاّ أن للشارع التصرّف في حكم العقل ، بأنْ تجعل البدل وينزّل الفرد المشكوك الصحّة بمنزلة الصحيح ، أو العمل المشكوك المقربيّة والمحقّق للامتثال حقيقةً … فإنا نقول : أمّا الواجب التوصّلي إنما يتحقّق الامتثال فيه بالإتيان بما تعلّق به الطلب بلا شيء زائد عليه فهو خارج عن البحث ، وأمّا الواجب التعبّدي ، فيعتبر فيه أنْ يكون الإتيان به على وجه قربي ، لكنّ العقل يكتفي في المقربيّة إلى المولى بمجرّد كون العمل مضافاً إليه ، وأنه تحقّق الطّاعة بالإتيان بالعمل بداعي الغرض ، أو بداعي الأمر ، أو بداعي احتمال الغرض أو الأمر … لأنّه تتحقّق الإضافة إلى بأي داع من هذه الدواعي ، ومجرّد الإضافة كاف في تحقق الفراغ والامتثال .
وحينئذ ، فلا يبقى ريب في كفاية الامتثال الإجمالي حتى مع التمكّن من الامتثال التفصيلي .
(1) حقائق الاصول 2 / 57 .
(2) نهاية الدراية 3 / 114 .
(3) نهاية الدراية 3 / 114 .
(4) فوائد الاصول 3 / 67 .
(5) أجود التقريرات 3 / 80 ـ 81 .
(6) فوائد الاصول 3 / 68 ـ 69 . الهامش .