المقام الثالث ( في الاصول غير المحرزة )
قال ما ملخّصه بلفظه :
وأمّا الاصول غير المحرزة كأصالة الاحتياط والحلّ والبراءة ، فقد عرفت أن الأمر فيها أشكل ، فإن المجعول فيها ليس الهوهويّة والجري العملي ، بل مع حفظ الشك يحكم على أحد طرفيه بالوضع أو الرفع ، فالحرمة المجعولة في أصالة الاحتياط والحليّة المجعولة في أصالة الحلّ ، تناقض الحليّة والحرمة الواقعيّة على تقدير تخلّف الأصل عن الواقع .
وقد تصدّى بعض الأعلام لرفع غائلة التضاد بين الحكمين باختلاف الرتبة ، وأنت خبير بفساد هذا التوهّم ، فإن الحكم الظاهري وإنْ لم يكن في رتبة الحكم الواقعي ، إلاّ أن الحكم الواقعي يكون في رتبة الحكم الظاهري ، لانحفاظ الحكم الواقعي في مرتبة الشك فيه ولو بنتيجة الإطلاق فيجتمع الحكمان في رتبة الشكّ ، فتأخّر رتبة الحكم الظّاهري عن الحكم الواقعي لا يرفع غائلة التضادّ بينهما إلاّ بضمّ مقدّمة اخرى إلى ذلك ، وهي :
إنّ الأحكام الواقعيّة بوجوداتها النفس الأمريّة لا تصلح للدّاعويّة ، وقاصرة عن أن تكون محرّكةً لإرادة العبد نحو امتثالها في صورة الشك في وجودها ، فإنّ الحكم لا يمكن أن يتكفّل لأزمنة وجوده التي زمان الشك فيه ، ويتعرّض لوجود نفسه في حال الشكّ وإنْ كان محفوظاً في ذلك الحال عى تقدير وجوده الواقعي ، إلاّ أنّ انحفاظه في ذلك الحال غير كونه بنفسه مبيّناً لوجوده فيه ، بل لابدّ في ذلك من مبيّن آخر وجعل ثانوي يتكفل لبيان وجود الحكم في أزمنة وجوده ، ـ ومنها زمان الشك فيه ـ ويكون هذا الجعل الثانوي من متممات الجعل الأوّلي ويتحد الجعلان في صورة وجود الحكم الواقعي في زمان الشك .
ولا يخفى : أنّ متمم الجعل على أقسام : فإنّ ما دلّ على وجوب قصد التعبّد في العبادات يكون من متممات الجعل ، وما دلّ على وجوب السير للحج قبل الموسم يكون من متممات الجعل ، وما دلّ على وجوب الغسل على المستحاضة قبل الفجر في اليوم الذي يجب صومه من متممات الجعل ، وغير ذلك من الموارد التي لابدّ فيها من متمم الجعل ، وهي كثيرة في أبواب متفرقة وليست بملاك واحد ، بل لكلّ ملاك يخصّه ، وإن كان يجمعها قصور الجعل الأوّلي عن أن يستوفي جميع ما يعتبر استيفائه في عالم التشريع ; ولاستقصاء الكلام في ذلك محلّ آخر . والغرض في المقام : بيان أنّ من أحد أقسام متمم الجعل هو الذي يتكفل لبيان وجود الحكم في زمان الشك فيه إذا كان الحكم الواقعي على وجه يقتضي المتمم ، وإلاّ فقد يكون الحكم لا يقتضي جعل المتمم في زمان الشك .
وتوضيح ذلك : هو أنّ للشك في الحكم الواقعي اعتبارين :
أحدهما : كونه من الحالات والطوارئ اللاّحقة للحكم الواقعي أو موضوعه ـ كحالة العلم والظن ـ وهو بهذا الإعتبار لا يمكن أخذه موضوعاً لحكم يضاد الحكم الواقعي ، لانحفاظ الحكم الواقعي عنده .
ثانيهما : اعتبار كونه موجباً للحيرة في الواقع وعدم كونه موصلاً إليه ومنجزاً له ، وهو بهذا الإعتبار يمكن أخذه موضوعاً لما يكون متمماً للجعل ومنجزاً للواقع وموصلاً إليه ; كما أنّه يمكن أخذه موضوعاً لما يكون مؤمّناً عن الواقع ـ حسب اختلاف مراتب الملاكات النفس الأمرية ومناطات الأحكام الشرعية ـ فلو كانت مصلحة الواقع مهمّة في نظر الشارع ، كان عليه جعل المتمم ـ كمصلحة احترام المؤمن وحفظ نفسه ـ فإنّه لما كان حفظ نفس المؤمن أولى بالرعاية وأهمّ في نظر الشارع من مفسدة حفظ دم الكافر ، اقتضى ذلك تشريع حكم ظاهري طريقي بوجوب الإحتياط في موارد الشك حفظاً للحمى وتحرّزاً عن الوقوع في مفسدة قتل المؤمن ; وهذا الحكم الطريقي إنّما يكون في طول الحكم للواقع ، نشأ عن أهمية المصلحة الواقعية ، ولذا كان الخطاب بالإحتياط خطاباً نفسيّاً وإن كان المقصود منه عدم الوقوع في مخالفة الواقع ، إلاّ أنّ هذا لا يقتضي أن يكون خطابه مقدّمياً ، لأنّ الخطاب المقدّمي هوما لا مصلحة فيه أصلاً ، والإحتياط ليس كذلك ، لأنّ أهميّة مصلحة الواقع دعت إلى وجوبه ; فالإحتياط إنّما يكون واجباً نفسياً للغير لا واجباً بالغير ، ولذا كان العقاب على مخالفة التكليف بالإحتياط عند تركه وإدّائه إلى مخالفة الحكم الواقعي ; لا على مخالفة الواقع ، لقبح العقاب عليه مع عدم العلم به ، كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في خاتمة الإشتغال .
ومن ذلك يظهر : أنّه لا مضادّة بين ايجاب الإحتياط وبين الحكم الواقعي ، فإنّ المشتبه إن كان ممّا يجب حفظ نفسه واقعاً فوجوب الإحتياط يتحد مع الوجوب الواقعي ويكون هو هو ; وإن لم يكن المشتبه ممّا يجب حفظ نفسه فلا يجب الإحتياط ، لانتفاء علّته ; وإنّما المكلف يتخيل وجوبه لعدم علمه بحال المشتبه ; فوجوب الإحتياط من هذه الجهة يشبه الوجوب المقدّمي ، وإن كان من جهة اخرى يغايره .
والحاصل : أنّه لمّا كان إيجاب الإحتياط متمماً للجعل الأوّلى من وجوب حفظ نفس المؤمن ، فوجوبه يدور مدار الوجوب الواقعي ، ولا يعقل بقاء المتمم ( بالكسر ) مع عدم وجود المتمم ( بالفتح ) ، فإذا كان وجوب الإحتياط يدور مدار الوجوب الواقعي ، فلا يعقل أن يقع بينهما التضاد ، لاتحادهما في مورد المصادفة وعدم وجوب الإحتياط في مورد المخالفة ، فأين التضادّ ؟
هذا كلّه إذا كانت مصلحة الواقع تقتضي جعل المتمم ، من إيجاب الإحتياط .
وإن لم تكن المصلحة الواقعيّة تقتضي ذلك ، ولم تكن بتلك المثابة من الأهمية بحيث يلزم للشارع رعايتها كيفما اتفق ، فللشارع جعل المؤمّن ، كان بلسان الرفع ، كقوله ـ صلّى اللّه عليه وآله ـ « رفع ما لا يعلمون » ، أو بلسان الوضع كقوله ـ صلّى اللّه عليه وآله ـ « كلّ شيء لك حلال » فإنّ المراد من الرفع في قوله ـ صلّى اللّه عليه وآله ـ « رفع ما لا يعلمون » ليس رفع التكليف عن موطنه حتى يلزم التناقض ، بل رفع التكليف عمّا يستتبعه من التبعات وإيجاب الإحتياط ; فالرّخصة المستفادة من قوله ـ صلّى اللّه عليه وآله ـ : « رفع ما لا يعلمون »نظير الرّخصة المستفادة من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ; فكما أنّ الرّخصة التي تستفاد من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، لا تنافي الحكم الواقعي ولا تضادّه ، كذلك الرّخصة التي تستفاد من قوله ـ عليه السّلام ـ « رفع ما لا يعلمون » . والسرّ في ذلك : هو أنّ هذه الرخصة تكون في طول الحكم الواقعي ومتأخر رتبتها عنه ، لأنّ الموضوع فيها هو الشك في الحكم من حيث كونه موجباً للحيرة في الواقع وغير موصل إليه ولا منجّز له ; فقد لوحظ في الرخصة وجود الحكم الواقعي ، ومعه كيف يعقل أن تضاد الحكم الواقعي ؟
وبالجملة : الرخصة والحليّة المستفادة من « حديث الرفع » و« أصالة الحل » تكون في عرض المنع والحرمة المستفادة من إيجاب الإحتياط ; وقد عرفت : أنّ إيجاب الإحتياط يكون في طول الواقع ومتفرّعاً عليه ; فما يكون في عرضه يكون في طول الواقع أيضاً ، وإلاّ يلزم أن يكون ما في طول الشيء في عرضه ، فتأمّل(1) .
أقول :
وملخّص كلامه في هذا المقام :
أنه لا يلزم محذور بجعل الاصول غير المحرزة ، لأن بين الحكم الواقعي والظاهري في موردها اختلافاً في المرتبة ، لأن موضوع هذه الاصول هو الشك في الحكم الواقعي .
لكنّ اختلاف المرتبة غير كاف لحلّ المشكل ، لوجود الحكم الواقعي في مرتبة الحكم الظاهري ، فيلزم المحذور ، ولذا قال :
إنّ الشك المأخوذ في موضوع هذه الاصول يتعلّق بالواقع ، فمعنى الخبر « رفع ما لا يعلمون » . أي : رفع ما يوجب الحيرة في الواقع . فهذا هو المراد من الشك . هذا من جهة .
ومن جهة اخرى : إن دليل الحكم الواقعي لا يتكفّل وجود الحكم الواقعي في ظرف الشك فيه ، فتقع الحاجة إلى متمّم الجعل ، فهو الدليل على وجود الحكم في ظرف الشك فيه .
ومن جهة ثالثة : إن مصلحة الحكم الواقعي تارةً : توجب أنْ يجعل متمّم الجعل في ظرف الشك ، فيجب امتثال الحكم الواقعي مع الشكّ فيه ، واخرى : توجب جعله بحيث ينتج عدم الحكم ، والأول هو الاحتياط ، والثاني هو البراءة .
قال : أمّا جعل الإحتياط فلا يستتبع محذوراً ، لأنّ الاحتياط الواجب معلول للحكم الواقعي ومجعول من أجل المحافظة عليه ، فليس الاحتياط شيئاً غير الحكم الواقعي .
وأمّا البراءة ، فكما أن قاعدة قبح العقاب بلا بيان تدلّ على الترخيص العقلي وهو لا ينافي الحكم الواقعي ، كذلك البراءة الشّرعية ، لأنّ الترخيص متقوّم بالحكم الواقعي لأن موضوعه الشك في الحكم المذكور ، والمتقوّم بالحكم الواقعي لا يعقل أن يكون منافياً له .
(1) فوائد الاصول 3 / 112 ـ 119 .