الكلام على الكفاية
وهو يقع في جهتين :
الاُولى : فيما ذكره في حلّ المشكل .
فإنّه يرد عليه : أنه إذا كان الحكم الواقعي بحيث لو علم به لتنجّز ـ أي : ليس فيه جهة نقص إلاّ عدم العلم الوجداني به ـ فلازمه أن تعود جميع المحاذير بمجرّد تحقّق العلم به .
والثانية : في أصل مبناه ، من أنّ مدلول الأدلّة في الأمارات أن المجعول في موردها هو « الحجيّة » ، فقد اُورد عليه بوجوه :
الأوّل :
ما ذكره المحقق الإصفهاني(1) من أنّ ظاهر عبارة الكفاية أنّ المجعول هو الحجيّة بمعنى التنجّز ، فأشكل على ظاهر العبارة ـ وإنْ احتمل فيما بعد أنْ يكون مراده منها حيثيّة اُخرى يترتّب عليها التنجّز ـ بأنّ التنجّز عبارة عن حسن العقاب عند الموافقة ، والتعذير عند المخالفة ، وهذا المعنى متوقّف على الحجيّة وبدونها يستحيل ذلك ، وحينئذ لو كانت الحجيّة بجعل حسن العقاب يلزم الدور .
وقد تبعه المحقّق الخوئي فقال بعد الإشكال على المحقق النائيني :
وبما ذكرنا ظهر ما في كلام صاحب الكفاية من أن المجعول في باب الأمارات هي الحجيّة ، بمعنى التنجيز عند المصادفة والتعذير عند المخالفة ، إذ التنجيز والتعذير بمعنى حسن العقاب على مخالفة التكليف مع قيام الحجّة عليه وعدمه مع عدمه ، من الأحكام العقلية غير القابلة للتخصيص ، فالتصرّف من الشارع لابدّ وأنْ يكون في الموضوع ، بأنْ يجعل شيئاً طريقاً ويعتبره علماً تعبّداً ، وبعد قيام ما اعتبره الشارع علماً على التكليف ، يترتب عليه التنجيز والتعذير عقلاً لا محالة ، وكذا الحال في الاصول المحرزة الناظرة إلى الواقع بإلغاء جهة الشك …(2) .
الجواب
ويجاب عن هذا الإشكال بأنه مع التأمّل في عبارة الكفاية مندفع ، فإنه إنما يرد إن كان يقول بجعل حسن العقاب والمنجزيّة ، لكنّه يقول بأنّ المجعول أمر اعتباري يوجب التنجّز .
وتوضيحه : إنّ « الحجية » هي كون الشيء بحيث يصحّ أن يحتجّ به ، وهذا غير حسن العقاب كما لا يخفى . يقول رحمه اللّه : كون الشيء بحيث يصحّ أن يحتجّ به تارةً ذاتيٌّ للشيء كما في القطع ، فإنّ الحجيّة ذاتيّ له ، واخرى : ليس كذلك كما في الأمارات والطّرق ، فإنّ ذلك مجعولٌ لما ثبت حجيّته منها ، وهو سواء في القطع أو خبر الثقة ونحوه يوجب حسن العقاب عند المخالفة . فهذا هو مراده ، وهو ظاهر كلامه إذ قال : وذلك لأن التعبّد بطريق غير علمي إنما هو بجعل حجيّته ، والحجية المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفيّة بحسب ما أدّى إليه الطريق ، بل إنما تكون موجبةً لتنجّز التكليف به .
الثاني :
إن الحجيّة عند المحقق الخراساني هي المنجزيّة ، والمنجزيّة هي السببيّة لاستحقاق العقاب ، لكن السببيّة غير قابلة للجعل لكونها من الامور التكوينيّة ، كما ذكر هو في الاستصحاب .
والجواب :
إنّ السببية عنده ممّا لا يقبل الجعل ، والحجية ممّا يقبل الجعل ، فهي غير السببيّة .
الثالث :
إنه يرد على كلامه بناءً على أن الحجيّة قابلة للجعل : إن المفروض ثبوت أحكام القطع كلّها للأمارات ، إلاّ أنها ثابتة للقطع بالذات وللأمارات بالجعل ، والحال أنْ الشيء الثابت للقطع هو الكاشفية عن الواقع ، ومن هنا يؤاخذ العقلاء على أساس القطع ، وليس في ارتكازهم بين « الكاشفية » و« صحّة المؤاخذة » واسطة اسمها « الحجيّة » . وإذ ليس للقطع ذلك فليس في الطرق .
والجواب
إن هذا خلاف الإرتكاز العقلائي ، فإنّهم يرون للقطع الحجيّة والكاشفيّة ، وقد عرفت أن المقصود من الحجيّة كونه بحيث يصحّ أنْ يحتجّ به ، ويشهد بذلك ما يستفاد من الروايات ـ كما قال الوحيد البهبهاني ـ من أن « العقل حجة »(3) .
(1) نهاية الدراية 3 / 124 .
(2) مصباح الاصول 2 / 104 ـ 105 .
(3) الفوائد الحائريّة : 96 .