الكلام على اعتبار قصد الوجه في العبادات
أمّا الإجماع على اعتبار قصد الوجه ، فدعوى تحصيله مشكلٌ ، وعلى فرضه ، فإنه غير كاشف عن رأي المعصوم أو الدليل المعتبر ، لكونه محتمل الاستناد إلى بعض الوجوه العقليّة ، كقولهم : بأن الأحكام الشرعيّة ألطاف في الواجبات العقليّة ، فالموضوع للحكم هو الواجب العقلي ، وحينئذ ، يكون الحكم بالحسن والقبح مترتّباً على الموضوع ، فإذا لم يقع العمل بعنوان الموضوع وبقصده بالخصوص ، لم يترتب عليه الأثر .
وهذا هو الوجه الأوّل في الاستدلال على اعتبار قصد الوجه في العبادات .
وهو باطلٌ ، لاستلزامه كون أوامر الشارع في العبادات إرشاديّةً إلى الأحكام العقليّة ، فيسقط الشارع عن المولويّة ، وقد تقرّر أن العقل لا مولويّة له بل هو مدركٌ فقط … وسقوط أحكام الشارع عن المولويّة باطل .
وحلّ المطلب هو : إن الأحكام الشرعيّة معلّلة بالأغراض المتعلّقة بالملاكات ، فالأحكام تابعة للملاكات ، هذا صحيح ، ولكنْ لا دليل على أن يكون الملاك هو الموضوع للحكم حتى يُقصد … فإنّ الشارع يقول ( أَقِمِ الصَّلاةَ )(1) ، ويقول ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ )(2) فهل يقصد الناهي عن الفحشاء والمنكر لدى إقامة الصّلاة ؟ بأي دليل ؟ إنه قال : الصلاة واجبة ، ولم يقل : النهي عن الفحشاء واجب ، فمقام الإثبات لا يساعد على ما ذكر .
الوجه الثاني : إنه مقتضى قاعدة الإشتغال ، وذلك :
لأنا نحتمل مدخليّة قصد الوجه في تحقق الإطاعة ، وهذا الاحتمال كاف لوجوب الإتيان بالعمل بقصد الوجه وعدم كفاية الامتثال الإجمالي ، لأن قصد الوجه فرع وجود الحكم ، لأنه من شئون الحكم ، ولا يمكن أخذ الفرع في الحكم ، لِما تقرّر ـ في بحث التعبّدي والتوصّلي ـ من عدم إمكان أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر ، وعليه ، فإنْ أمكن رفع هذا الوجوب بأصل لفظي أو عملي فهو ، وإلاّ وجب التحقيق عن الوجه اجتهاداً أو تقليداً والإتيان بالعمل بقصده … ولا أصل فيما نحن فيه ، أمّا اللّفظي ، فلا يجري الإطلاق ، لعدم إمكان التقييد ، سواء قلنا بأن النسبة بينهما هو نسبة السلب والإيجاب أو العدم والملكة . وأمّا العملي ، فليس إلاّ البراءة ، لكنّ قصد الوجه لا يمكن رفع وجوبه بها ، لأنه لا يمكن أخذه في متعلّق التكليف كما تقدم ، فما لا يمكن وضعه لا يمكن رفعه .
وإذا كنّا نحتمل دخل قصد الوجه ونشكّ في تحقق الامتثال بدونه ، ولا أصل رافع للحكم ، فلا يحصل الامتثال إلاّ بقصد الوجه . كما أن قاعدة الإشتغال بالغرض من التكليف أيضاً تقتضي وجوب تحصيل قصد الوجه .
والجواب :
إنّ هذا الوجه يبتني على مقدّمتين .
الاُولى : احتمال دخل الوجه في الغرض وجداناً ، وأنه لا يمكن أخذه في المتعلّق .
والثانية : إنّ كلّ ما يحتمل دخله في الغرض الذي لا يتمكّن المولى من البيان له يحكم العقل بلزوم الإتيان به .
لكنّ الكلام في المقدّمة الثانية .
أمّا على القول بأنه : لا يمكن أخذ قصد الوجه لا بالأمر الأوّل ولا بالأمر الثاني ـ كما عليه المحقق الخراساني ـ ، فإنه تجري قاعدة الاشتغال ولا مجال للبراءة ، لأن الأمر يكشف إنّاً عن الغرض فهو علّة للأمر ، وما لم يحصّل الغرض لم يسقط الأمر ، ومع الشك في تحصيل الغرض بلا قصد للوجه ، فالمحكّم قاعدة الاشتغال .
وما قيل ـ من جريان البراءة العقليّة ، لأن الغرض يمكن أن يكون قائماً في الواقع بالصّلاة مع قصد الوجه ، لكن المولى غير قادر على بيان ذلك ، والأمر غير كاشف عن هذه الخصوصيّة ، وإذْ لا بيان عن الغرض ، فهو مجرى قاعدة البراءة ـ .
فيه : إن قاعدة قبح العقاب بلا بيان إنما تجري حيث يكون البيان مقدوراً ، والمفروض أن المولى غير متمكّن من بيان دخل القصد في الغرض مع احتماله واقعاً ، وعليه ، فلا يجري البراءة بل الجاري أصالة الاحتياط ، بمقتضى وظيفة العبودية . هذا أوّلاً .
وثانياً : إنه بمجرّد عدم الجزم بحكم العقل بقبح العقاب ، واحتمال استحقاقه ، يتمُّ الموضوع لقاعدة الإحتياط ، لأن دخل القصد في الغرض الواجب تحصيله منجّز عقلاً كالقطع به ، وقد ظهر أنْ لا دافع لهذا الاحتمال .
إلاّ أنّ الكلام في صغرى المقام ، وهو عبارة عن عدم تمكّن المولى من بيان الغرض ، أمّا على القول بإمكان قصد الوجه في المتعلّق ـ كما عليه المحقق العراقي ـ فواضحٌ ، لأن المولى بناءً عليه متمكّن من البيان ولم يبيّن ، فيؤخذ بأصالة الإطلاق . وأمّا على القول بإمكان ذلك بالأمر الثاني ـ كما عليه الميرزا ـ فإنه يؤخذ بنتيجة الإطلاق .
وأمّا المحقق الخراساني ـ القائل بعدم الإمكان لا بالأمر الأوّل ولا بالأمر الثاني ـ فجوابه عن هذا الدليل هو : التمسّك بالإطلاق المقامي ، بأنه : لو كان قصد الوجه دخيلاً في الغرض ، فلا يخلو إمّا أنّ دخله فيه ممّا لا يغفل عنه المكلّفون عموماً ، فلا يجب عليه البيان ، وإمّا أنّه ممّا يغفلون عنه وهو في مقام البيان ، فالواجب عليه البيان لئلاّ يلزم الإغراء بالجهل ، وإذ لم يأت البيان والتنبيه على الغرض ، فالإطلاق المقامي ثابت .
فظهر سقوط الاستدلال على جميع الأقوال .
وعليه ، فلا مانع من الإمتثال الإجمالي من ناحية قصد الوجه .
(1) سورة الإسراء : 78 .
(2) سورة العنكبوت : 45 .