الدليل الثاني : النصوص
قال الشيخ :
فإن قلت : لعلّ نظر هؤلاء في ذلك إلى ما يستفاد من الأخبار ـ مثل قولهم عليهم السّلام : « حرامٌ عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منّا » ، وقولهم عليهم السّلام : « لو أنّ رجلاً قام ليله ، وصام نهاره ، وحجّ دهره ، وتصدّق بجميع ماله ، ولم يعرف ولاية وليّ اللّه ; فيكون أعماله بدلالته فيواليه ، ما كان له على اللّه ثواب » ، وقولهم عليهم السّلام : « من دان اللّه بغير سماع من صادق فهو كذا وكذا … » ، إلى غير ذلك … : من أنّ الواجب علينا هو امتثال أحكام اللّه تعالى التي بلّغها حججه عليهم السّلام ، فكلّ حكم لم يكن الحجّة واسطةً في تبليغه لم يجب امتثاله ، بل يكون من قبيل : «اسكتوا عمّا سكت اللّه عنه » ; فإنّ معنى سكوته عنه عدم أمر أوليائه بتبليغه ، وحينئذ ، فالحكم المستكشف بغير واسطة الحجّة مُلغىً في نظر الشارع وإن كان مطابقاً للواقع ; كما يشهد به تصريح الإمام عليه السّلام بنفي الثواب على التصدّق بجميع المال ، مع القطع بكونه محبوباً ومرضيّاً عند اللّه .
ووجه الاستشكال في تقديم النقلي على العقلي الفطري السليم : ما ورد من النقل المتواتر على حجّية العقل ، وأنّه حجّة باطنة ، وأنّه ممّا يُعبد به الرحمن ويُكتسب به الجنان ، ونحوها ممّا يستفاد منه كون العقل السليم أيضاً حجّة من الحجج ، فالحكم المستكشف به حكمٌ بلّغه الرسول الباطني ، الذي هو شرعٌ من داخل ، كما أنّ الشرع عقلٌ من خارج .
وممّا يشير إلى ما ذكرنا من قِبَل هؤلاء: ما ذكره السيّد الصّدر رحمه اللّه في شرح الوافية ـ في جملة كلام له في حكم ما يستقلّ به العقل ـ ما لفظه :
إنّ المعلوم هو أنّه يجب فعل شيء أو تركه أو لا يجب إذا حصل الظنّ أو القطع بوجوبه أو حرمته أو غيرهما من جهة نقل قول المعصوم عليه السّلام أو فعله أو تقريره ، لا أنّه يجب فعله أو تركه أو لا يجب ، مع حصولهما من أيّ طريق كان(1) ، انتهى موضع الحاجة .
والجواب
وقد اُجيب عن هذا الاستدلال بوجوه :
الأوّل : إنّ هذه النصوص تنهى عن الرّكون إلى القطع الحاصل من تلك المقدّمات ، وهذا غير معقول .
وفيه : إنّ محلّ الكلام الآن هو جواز الركون إلى العقل لاستنباط الحكم الشرعي وعدم جوازه .
الثاني : إنها ناظرة إلى المنع عن العمل بالقياس والاستحسان ونحوهما مما يفيد الظنّ بالحكم الشرعي .
وفيه : إنّ هذا الجواب يتمّ بالنسبة إلى بعض النّصوص ، ولعلّ أظهرها في الدلالة على المنع من الأخذ بالمقدّمات العقليّة قبل حصول القطع والمقصود منها . هو النهي عن القياس ما :
عن أبي بصير ، قال قلت : لأبي عبداللّه عليه السّلام : ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب اللّه ولا سنّته ، فننظر فيها ؟
« قال : لا ، أما أنك إنْ أصبت لم تؤجر وإنْ أخطأت كذبت على اللّه »(2) .
وهذه الرواية لم يوردها الشيخ .
أمّا سنداً ، فهي معتبرة .
وأمّا دلالةً ، فظاهر قوله عليه السلام : « لا » هو أنه إن كان الشيء في الكتاب والسنّة رجع إليهما فيه ، وأمّا ما لا يوجد فيهما فلا ينظر فيه . وقوله : « أما أنّك … » ظاهر في إلغاء طريقيّة غير الكتاب والسنّة ، وإلاّ لم يعقل عدم الأجر عند الإصابة والكذب على اللّه عند الخطأ .
لكن الاستدلال بها لما ذهب إليه الأخباريون يتوقّف على ثبوت الإطلاق فيها ، بأنْ يكون قوله : « فننظر فيها » أعمّ من النظر العقلي القطعي ، فيكون قول الإمام : « لا » مطلقاً من باب ترك الاستفصال ، ويتفرّع عليه قوله : « أما أنك … » ، إلاّ أن ثبوته أوّل الكلام ، لإمكان دعوى كون السؤال محفوفاً بما يصلح للصّارفيّة عن النّظر العقلي القطعيّ ، وهو شيوع النظر القياسي الظنّي في تلك الأزمنة ، وحينئذ ، لا ينعقد الإطلاق في السؤال حتى ينعقد في الجواب .
وهناك نصٌّ آخر ودلالته قويّة ، وقد ذكره الشيخ ، وهو ما :
عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام في خبر : « لو أنّ رجلاً قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية وليّ اللّه فيواليه وتكون جميع أعماله بدلالته إليه ، ما كان له على اللّه حق في ثوابه ولا كان من أهل الايمان »(3) .
والسند معتبر كذلك .
ويمكن الجواب عنه : بأنّ ما ورد عنهم عليهم السّلام ممّا يدلّ على حجيّة العقل ، من دلالة وليّ اللّه كذلك .
هذا ، وأمّا استطراق الرمل والجفر للوصول إلى الأحكام الشرعيّة ، فممنوع ، لأنه مخالف للسّيرة الاستنكارية المستمرة القطعيّة .
(1) فرائد الاصول 1 / 58 ـ 60 .
(2) وسائل الشيعة 27 / 40 ، الباب 6 من أبواب صفات القاضي ، رقم : 6 .
(3) وسائل الشيعة 1 / 119 ، الباب 29 من أبواب مقدمة العبادات ، رقم : 2 .