الجهة الاُولى : في الصغرى
وهي : هل يلزم من التعبّد بالظن تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة أوْلا ؟
وهل يلزم ذلك بناءً على جعل السببيّة للأمارات ، أو على جعل الطريقيّة ؟
وبناءً على القول الثاني ، يطرح البحث تارة : في صورة انفتاح باب العلم ، واخرى : في صورة الانسداد .
ولا يخفى الفرق بين المحاذير ، لأنّ تحريم الحلال إشكاله هو عدم التبعيّة للملاك ، إذ ليس فيه إلقاء في المفسدة ولا تفويت للمصلحة . أمّا تحليل الحرام ، فالإشكال فيه هو الإلقاء في المفسدة وهو من المولى قبيح .
أمّا بناءً على السببيّة
فعلى قول الأشاعرة من أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للأمارات ، وأنّ قيام الأمارة هو تمام الموضوع للملاك ، فلا يوجد في الواقع ملاك ، فلا يلزم أيّ محذور أصلاً ، لعدم لزوم مفسدة من التعبّد بالظن .
لكن هذا القول باطل ، كما ثبت في محلّه .
وعلى قول المعتزلة ، من أن قيام الأمارة عنوان ثانوي يوجب انقلاب المصلحة أو المفسدة في العنوان الأوّلي ، فالمحذور غير لازم كذلك .
لكنّه قول باطل ، لأن قيام الأمارة ليس من العناوين الثانوية الموجبة لتغيّر الحكم كالحرج والاضطرار ، كما بُيّن في محلّه .
إنما الإشكال في ما ذهب إليه الشيخ ، وهو : الالتزام بوجود المصلحة في السّلوك على طبق الأمارة ، فبمقدار الوقوع في خلاف الواقع من الالتزام بمقتضى الطريق وتفويت المصلحة من ذلك ، يكون التدارك من الشارع بجعل المصلحة في نفس سلوك الطريق ، ولا يبقى محذور .
هكذا قالوا .
ولكنّ التحقيق ورود المحذور على هذا المبنى ، لأنّ التدارك لا يرفع القبح ، ولذا لو أتلف الإنسان مالاً لغيره ، ثم أدّى مثله أو قيمته وحصل التدارك للمال المتلف ، كان قبح التصرّف في مال الغير باقياً على حاله حتى لو لم يفّوت بذلك غرضاً من أغراضه .
وعلى الجملة ، فإنّ التدارك مثبت ومحقّق لموضوع القبح وليس رافعاً له عند العقل ، إلاّ أنْ يقال بأنّ موضوع الحكم بالقبح هو المصلحة غير المتداركة ، فيرتفع الإشكال في ناحية المصلحة ولكنّه يبقى في ناحية المفسدة .
ولكنّ المبنى من أصله باطلٌ ، كما تقرّر في محلّه .
هذا كلّه بناءً على السببيّة .
وأمّا بناءً على الطريقيّة
بمعنى أن الشارع يجعل الطريق ، فإنْ أدّى إلى الواقع فهو ، وإلاّ فالمكلّف معذور من قبله .
فيقع البحث بين الأعاظم قدّس اللّه أسرارهم تارةً : في ظرف الإنسداد ، واخرى : في ظرف الانفتاح .
أمّا في ظرف الإنسداد
بأن يجعل الشارع طريقاً يلزم منه الإلقاء في المفسدة أو تفويت المصلحة أو تفويت مصلحة الترخيص في المباح ، فنقول :
إنْ لزم تفويت مصلحة الترخيص ، فالمفروض عدم لزوم الاحتياط ، لاستلزامه اختلال النظام ، ويكون المرجع حينئذ قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ولا يلزم تفويت المصلحة .
وأمّا تفويت مصلحة الواجب والإلقاء في المفسدة ، فكذلك ، لأن الشارع لمّا لم يجعل الاحتياط ، فالمرجع هو القاعدة المذكورة .
فلا محذور في ظرف الانسداد .
وتفصيل ذلك :
أمّا في تحريم الحلال عند الانسداد ، فإنّ منشأ الحليّة تارة : هو اللاّاقتضاء ، وتحريم هكذا حلال لا إشكال فيه ، لا بالنسبة إلى المتعلّق ولا بالنسبة إلى الحكم ، فإنه لا مانع من أنْ يمنع عن جائز ، من أجل التحفّظ على الواقع . واُخرى : هو الإقتضاء ، أي المصلحة في الترخيص ، فهنا أيضاً لا يلزم الإشكال من جهة الإلقاء في المفسدة بالنسبة إلى المتعلّق أو تفويت مصلحته .
ويبقى فقط الإشكال بلزوم تفويت المصلحة الخاصة القائمة في الترخيص على أثر جعل الأمارة . وسيأتي حلّ هذا الإشكال .
وأمّا في تحليل الحرام ، بأنْ يلزم من جعل الأمارة الإلقاء في المفسدة وفوت المصلحة الملزمة ، فللإشكال جهتان :
الاولى : من جهة نفس المتعلّق ، فإنه في ظرف الإنسداد إنْ جعل الشارع الطريقيّة لخبر الثقة مثلاً وقام على إباحة حرام ، يلزم الإلقاء في مفسدة الحرام من ناحية هذا الجعل ، وإن قام على إباحة واجب ، لزم تفويت مصلحة الواقع .
والثانية : من جهة أن إيجاب الواجب وتحريم الحرام الواقعي ، لا يكون بلا غرض ، وهذا الغرض ينتقض على أثر جعل الإمارة .
والجواب عن الإشكال في الجهة الاولى ـ وكذا الإشكال الباقي في تحريم الحلال ـ هو :
أنّ المرجع في مفروض الكلام ليس إلاّ البراءة العقليّة ، فلولم يجعل الشارع الحجيّة للطرق ، كانت البراءة هي السبب لوقوع المكلّف في المفسدة أو تفويت المصلحة ، والقبيح بحكم العقل هو إيقاع الشارع المكلّف في المفسدة ، أمّا المكلّف فهو واقع فيها على كلّ حال ، والإلقاء غير منتسب إلى الشارع ، ويكفي لرجحان جعل الأمارة أن يكون الوقوع في المفسدة أو تفويت المصلحة أقلّ ، فلم يتحقّق من الشارع قبيح ، بل الصّادر منه ليس إلاّ الخير .
نعم ، لو كانت الوظيفة في ظرف الإنسداد هو الإحتياط عقلاً ، كان جعل الأمارة من الشارع قبيحاً .
وأمّا في ظرف الانفتاح
وهو العمدة ، فلحلّ المشكل طريقان :
أحدهما : إنّه لا إلقاء في المفسدة . قاله الميرزا .
والثاني : إنّ الإلقاء في المفسدة ليس قبيحاً ذاتاً . قاله صاحب الكفاية .
أمّا أنه ليس في المورد إلقاء في المفسدة ، وهو إنكار الصغرى ، كما ذكرنا من قبل فتوضيحه :
إن في جعل الطرق والأمارات مصلحةً نوعيّة ، هي مصلحة التسهيل ، وهذه المصلحة قد تتقدّم في نظر الشارع على الملاكات الواقعيّة ، ولا يرى العقل في ذلك قبحاً ، ومن ذلك : حكم الشارع بطهارة الحديد تسهيلاً على العباد لابتلائهم غالباً باستعماله في شئونهم المختلفة ، وإلاّ فالنصوص المعتبرة دالّة على نجاسته، فكما لا يكون الحكم بالطّهارة هناك إلقاءً في المفسدة أو تفويتاً لمصلحة حتى يحكم العقل بالقبح ، كذلك الحال في التعبّد بالأمارات بناءً على الطريقيّة ، ومن هذا الباب : إرجاع الأئمة عليهم السلام في زمن حضورهم إلى بعض الأصحاب ، كإرجاع الإمام الرضا عليه السّلام عبدالعزيز بن المهتدي إلى يونس بن عبدالرحمن ، مع كون باب العلم ـ وخاصّةً الواقعي ـ بالرجوع إلى الإمام ممكناً ، لكنّه أرجعه إلى يونس تسهيلاً له ، لأنّه قال : « إنّ شقّتي بعيدة فلست أصل إليك في كلّ وقت »(1) .
وأمّا أنّ الإلقاء في المفسدة ليس من القبيح الذاتي ، وهذه هي :
(1) وسائل الشيعة 27 / 148 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، رقم : 35 .