الثاني : في الاستدلال بالأخبار لاستحقاق العقاب على القصد
ذكر في دراسات في علم الاصول ، أنه ربما يستدلّ لحرمة التجرّي بالروايات الواردة في ترتب العقاب على قصد السوء وأنه يحاسب عليه ، وهناك روايات اُخر دالّة على عدم ترتب العقاب على القصد وأنَّ نية السوء لا تكتب ، فتقع المعارضة بين الطائفتين .
والشيخ قدّس سرّه جمع بينهما بحمل الطائفة الاولى على القصد المستتبع للاشتغال ببعض المقدمات والثانية على القصد المجرد عن ذلك ، ولكنه لا شاهد عليه ، فيكون جمعاً تبرعياً .
والصحيح أنْ يجمع بينهما بحمل الطائفة الثانية على القصد الذي ارتدع الإنسان بنفسه عنه ، والاولى على ما إذا لم يرتدع حتى إذا شغله شاغل خارجي .
والشاهد على هذا الجمع هو : النبوي المشهور من أنه « إذا التقى المسلمان بسيفهما ، فالقائل والمقتول في النار ، قيل : يا رسول اللّه هذا القاتل ، فما بال المقتول ؟ قال صلّى اللّه عليه وآله : لأنه أراد قتل صاحبه »(1) .
فإنّ ظاهر التعليل هو إرادة القتل مع عدم حصول الرادع له عن نفسه ، وأنّ عدم تحقق القتل منه كان لعدم تمكنه على ذلك .
وبعبارة اخرى : حيث إن كلّ رواية تكون نصاً في موردها ، ومورد النبوي إنما هو قصد القتل مع عدم إنقداح رادع له عن نفسه فيكون نسبته مع الطائفة الثانية من الروايات نسبة الخاص إلى العام فيه تخصص تلك الأخبار ، وتختص بصورة تحقق الرادع له عن نفسه ، فتنقلب النسبة بينها وبين الطائفة الاولى من الروايات من العموم من وجه إلى العموم المطلق ، فتخصص الطائفة الاولى بالطائفة الثانية فيخرج صورة وجود الرادع عن قصد السوء عن الروايات الدالّة على المؤاخذة على القصد وتبقى الصورة الاخرى تحتها ، فالمقام من صغريات مبحث انقلاب النسبة ، ونتعرض له في محلّه .
وكيف كان ، فهذه الرواية تكون شاهدة للجمع الذي ذكرناه .
وأما الجمع الذي ذكره الشيخ رحمه اللّه فلا شاهد عليه .
ولا يخفى أنه لا يحتمل في النبوي أن يكون لإرادة القتل خصوصية في الحرمة للقطع بعدم الفرق بين القتل وغيره من المعاصي من هذه الجهة ، فتأمل .
وعلى أي تقدير ، الاستدلال بما يدلّ على المؤآخذة على قصد المعصية ولو بعد الاشتغال بمقدماتها على حرمة التجري ، غير صحيح .
أما أولاً : فلأنّ مورد النبوي المتقدم الذي جعلناه شاهداً للجمع وخصصنا به ما دلّ على ثبوت المحاسبة والمؤاخذة على نية السوء من جهة كونه نصّاً في مورده ، إنما هو إرادة القتل الواقعي والاشتغال بمقدماته وعدم ارتداعه عنه بنفسه ، ولا ربط له بالحرام الخيالي أي ما يعتقده حراماً .
وثانياً : لو سلمنا أن مورده أعم من ذلك ومن قصد الإتيان بما قطع بحرمته ، فليس في الروايات ما يدلّ على حرمة ذلك القصد ، بل غاية ما فيها إنه يحاسب عليه أو يعاقب ، وهذا التعبير لا يدلّ على أزيد مما كان العقل مستقلاً به من استحقاق المتجري للعقاب ، ولا يستفاد منها الحرمة المولوية(2) .
أقول
أوّلاً : لقد اعتمد على النبوي ، وجعله شاهداً للجمع بين الأخبار .
وثانياً : إنه لم يناقش في الأخبار الدالّة على الاستحقاق سنداً ، ولذا سلّم بالتعارض وجمع بين الطرفين بشهادة النبوي .
ولكنْ في مصباح الاصول ، بعد الإشارة إلى اختلاف الأخبار وذكر النبوي :
لكنّ التحقيق عدم صحّة الاستدلال بالروايات الدالّة على ترتّب العقاب على قصد المعصية لحرمة التجرّي ، مع قطع النظر عن ابتلائها بالمعارض ، لوجوه :
الأوّل : إنها قاصرة من حيث السند ، فإنا راجعناها بتمامها ، ورأينا أنّ ما يدلّ على المقصود ضعيف السند كالنبويّ المذكور ، وما هو تام سنداً قاصر من حيث الدلالة، راجع الوسائل : أبواب مقدّمة العبادات …(3) .
فبين التقريرين بونٌ بعيد !! وما جاء في الدراسات هو المتقن كما سيظهر .
وثالثاً : ما ذكره من وجه الجمع ، يرد عليه :
1 ـ إنّ مسألة انقلاب النسبة محلّ بحث بين الأعلام .
2 ـ إنّ دعوى اختصاص النبويّ بما إذا لم يرتدع عن قصد القتل ، ليكون شاهداً للجمع ، دعوى بلا دليل ، نعم ، هو القدر المتيقّن ، لكن الأخذ به مقام الجمع أوّل الكلام .
ورابعاً : إنّ في الروايات ما هو معتبر سنداً ، فقد روى الشيخ الكليني عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن جميل ، عن أحدهما عليهما السّلام قال :
« إنّ اللّه تعالى قال لآدم : يا آدم ، جعلت لك أنّ من همّ من ذريّتك بسيّئة لم تكتب عليه … »(4) .
فإن لسانه لسان الامتنان ، ولولا وجود المقتضى للعقوبة لما كان للامتنان وجه .
فالتحقيق : صحّة الاستدلال بالأخبار ، لكنّ مقتضى الجمع هو عدم فعليّة العقاب منّةً منه اللّه الجواد الكريم .
(1) وسائل الشيعة 15 / 148 ، الباب 67 من أبواب جهاد العدو ، رقم : 1 . وفيه اختلاف في اللّفظ .
(2) دراسات في علم الاصول 3 / 37 ـ 39 .
(3) مصباح الاصول 2 / 29 .
(4) وسائل الشيعة 1 / 52 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، رقم : 8 .