الاستحقاق على العزم
ويستدلُّ له بالعقل والنقل :
أمّا عقلاً ، فلما تقدّم من أن العزم على المعصية أمر اختياري ، للمكلّف القدرة على إيجاده وإعدامه ، وكلّ عمل اختياري يُستحق العقاب أو الثواب عليه … ومن الواضح أن العزم على المعصية طغيان على المولى وهتك له ، فالعقل حاكم باستحقاق العقاب عليه ، والعقلاء يرون ذلك بلا كلام ، وإنْ لم يقع الفعل على ما عزم عليه .
وأمّا نقلاً ، فالأخبار الواردة في الموضوع كثيرة ، وبعضها معتبر سنداً :
كالخبر عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن جميل ، عن ابن بكير ، عن أحدهما عليهما السلام قال :
« إنّ اللّه تعالى قال لآدم : يا آدم جعلت لك أنّ من همّ من ذريّتك بسيّئة لم تكتب عليه ، فإنْ عملها كتبت عليه سيّئة . ومن همّ منهم بحسنة ، فإنْ لم يعملها كتبت له حسنة ، وإنْ هو عملها كتبت له عشراً »(1) .
وفي رواية اخرى :
« إنما خُلّد أهل النار في النار ، لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أنْ لو خُلّدوا فيها أن يعصوا اللّه أبداً .
وإنّما خُلّد أهل الجنّة في الجنّة ، لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أنْ لو بقوا فيها أن يطيعوا اللّه أبداً .
فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء … »(2) .
هذا كلّه في المقتضي لاستحقاق العقاب ، وهل من مانع ؟
أمّا عقلاً ، فسيأتي .
وأما نقلاً ، فما في النصوص ، ممّا يدلّ على عدم الاستحقاق ، ففي الخبر عن الإمام أبي عبداللّه عليه السلام قال :
« لو كانت النيّات من أهل الفسق يؤخذ بها أهلها ، إذاً ، لأخذ كلّ من نوى الزنا بالزنا ، وكلّ من نوى السّرقة بالسرقة ، وكلّ من نوى القتل بالقتل ، ولكنّ اللّه عدلٌ كريم ليس الجور من شأنه ، ولكنه يثيب على نيّات الخير أهلها وإضمارهم عليها ، ولا يؤاخذ أهل الفسق حتى يفعلوا »(3) .
يفيد هذا الخبر أنّ المؤاخذة على النيّات ينافي العدل ، إذن ، ليس هناك استحقاق حتّى يكون العفو … .
لكنّ قوله عليه السلام : « لكنه يثيب … » وإنْ دلّ على التفضّل ـ إذ لا حقّ لأحد على اللّه ـ فيه دلالة على أن للنيّة أثراً . وكذلك الحال في طرف نيّة أهل الفسق ، فله أثر وهو استحقاق العقاب ، إلاّ أنهم لا يؤاخذون حتى يفعلوا … .
فكان أثر نيّة الخير استحقاق التفضّل بالثواب من اللّه ، وأثر نيّة أهل الفسق هو المؤاخذة ، لكنهم يعفون حتى يفعلوا .
فتقع المعارضة في الرواية صدراً وذيلاً ، فهي حينئذ مجملة لا تصلح لمعارضة الأخبار السّابقة .
على أنّ سنده لا يخلو عن كلام ، فهو في قرب الإسناد عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة … وفي مسعدة كلام للعلاّمة في الخلاصة ، إذ أورده في القسم الثاني ، وهم من لا يعتمد عليهم ، قال : قال الشيخ رحمه اللّه : إنه عامي . وقال الكشي : إنه بتري(4) .
إلاّ أنه قد تقرّر في محلّه أنّ العمدة هي وثاقة الرّاوي وإن كان على مذهب باطل .
وذهب الوحيد البهبهاني(5) إلى الأخذ برواياته ، لكونها موافقةً لروايات الثقات .
وهذا غاية ما يفيده هو الظن بالوثاقة ، وهو لا يغني من الحق شيئاً .
وذهب السيد الخوئي(6) إلى وثاقته ، لكونه من رجال تفسير علي بن إبراهيم وكتاب كامل الزيارات .
على أنّ هذا الخبر شاذ بالنسبة إلى الأخبار المتقدّمة ، وقد قال عليه السّلام : « خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر »(7) ، فمقتضى القاعدة هو الأخذ بتلك الأخبار وترك هذا الخبر … .
وهذا تمام الكلام في الدعوى الاولى .
(1) وسائل الشيعة 1 / 51 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، رقم : 8 .
(2) وسائل الشيعة 1 / 50 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، رقم : 4 .
(3) وسائل الشيعة 1 / 55 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، رقم : 21 .
(4) رجال العلاّمة الحلي : 260 .
(5) انظر : تنقيح المقال في علم الرجال 3 / 212 .
(6) معجم رجال الحديث 19 / 151 .
(7) مستدرك الوسائل 17 / 303 .