الإشكال عليه
ويردّه : أنّ قيام الأصل مقام القطع الكشفي يحتاج إلى ثبوت الطريقيّة والكاشفيّة للأصل ، إمّا بالسيرة العقلائية الممضاة من الشارع ، أو من ظاهر الأدلّة المعتبرة له ، فإذا حصل ذلك ترتّب على الأصل جميع آثار القطع ، كما كان الحال في الأمارات ، حيث أن الإرتكاز العقلائي قائم على كون خبر الثقة طريقاً ، ولذا يرتّبون عليه جميع آثار العلم ، وقد ذكرنا أنّ ذلك مقتضى دليل اعتبار خبر الثقة أيضاً .
وعلى الجملة ، فلو تمّ ذلك بالسّيرة أو بالدليل اللّفظي للاستصحاب ـ مثلاً ـ كان مقتضى القاعدة ترتب آثار العلم واليقين عليه ، كجواز الشهادة بالاستناد إليه ، وإذا لم يكن أحد الأمرين ، كان مقتضى القاعدة العدم ، وعلى هذا نقول :
إنّ السيرة العقلائيّة قائمة على الأخذ بالاستصحاب ، لكن لا من جهة إلقاء الشك بقاءً ، كما كان في الأمارة ، بل إنهم يأخذون بالحالة السابقة ويبقونها من باب الاطمينان ببقائها أو برجائها أو من باب الاحتياط ، فليس عملهم على طبق الحالة السّابقة استصحاباً لليقين السّابق ، فأخذهم بمقتضى الإستصحاب يختلف عن أخذهم بمفاد خبر الثقة .
وأمّا الأدلّة اللّفظية في الإستصحاب التي هي أدلّة اعتباره ، فلا دلالة لها على إلغاء الشك أصلاً ، فهي لا تدلُّ إلاّ على وجوب العمل بالحالة السّابقة ، ففي الصحيحة الاولى لزرارة ـ وهي أظهر الأدلّة ـ : « فإنّه على يقين من وضوئه »(1) وهو غير ظاهر في كونه على يقين فعلاً ، بل الظاهر منه كونه على يقين من وضوئه ، ويشهد بذلك قوله بعده : « فليس ينبغي أن ينقض اليقين بالشك » . فيكون المعنى : لا تنقض اليقين السابق بالشك اللاّحق في العمل ، فلا دلالة للرواية على : إنك الآن على يقين … ولا أقلّ من الشك ، فتكون مجملةً .
وفي الصحيحة الثانية : « لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت ، وليس ينبغي … »(2) ، فإن ظاهرها : أنّ اليقين الحاصل بشيء حدوثاً لا ينقض فيما بعد عملاً ، وليس المراد منها : أنت الآن على يقين تعبّداً .
وكذا قوله عليه السلام : « من كان على يقين فشكَّ ، فليمض على يقينه » أي : عملاً .
فظهر : أنه لا دليل ـ لا من السّيرة ولا من الأدلّة اللّفظيّة ـ على إلغاء الشكّ في الاستصحاب ، فلا يمكن المساعدة مع الاستدلال المذكور ، وستأتي بقيّة الكلام في النظر في استدلال المحقق النائيني .
هذا بالنسبة إلى الإستصحاب .
وأمّا قاعدة الفراغ ، فظواهر أدلّتها كذلك ، فظاهر قوله عليه السلام : « كلّما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو »(3) « بلى قد ركعت »(4) هو المضيُّ عملاً على اليقين السّابق ، ولا تدلّ القاعدة على جعل اليقين الآن ، قال عليه السلام في حديث : « لأنه حين يتوضّأ أذكر منه حين يشك »(5) أي : فيجب العمل على ما كان متيقّناً به متذكّراً له ، لا أنه متذكر الآن .
وعلى فرض التنزّل عمّا ذكرنا ، فهي ظاهرة في جعل المؤدّى .
وأمّا النصوص في كثير الشك مثل « لا شكّ لكثير الشك »(6) ، فللقول بظهورها في إلغاء احتمال الخلاف ونفي الشك وجه ، إلاّ أنّ الكلام في أنه إلغاء له من جميع الجهات ـ كأن يجوز له الإخبار عن عدم الشك مثلاً ـ أو من جهة العمل فقط ؟
لقد ذكر الميرزا وجود جهات عديدة في القطع ، منها جهة العمل ، وذكر أنّ الاصول المحرزة تنزل بمنزلة القطع في جهة العمل ، وسيأتي نقل كلامه بالتفصيل .
وعليه ، فلا ينزّل بمنزلته في جهة الكشف والطريقية ، فلا يقوم مقام القطع الموضوعي الكشفي ، فظهر ما في الاستدلال المتقدّم على القيام .
هذا كلّه بالنظر إلى الدليل اللّفظي .
وأمّا بالنظر إلى السيرة العقلائية ، فالظاهر قيامها على الطريقيّة .
فالحق هو قيام قاعدة الفراغ والتجاوز ، وقاعدة لا شك لكثير الشك ، وقاعدة حفظ الإمام أو المأموم ، مقام القطع الموضوعي الكشفي .
وأمّا ما تقدّم ـ عن مصباح الاصول ـ في قوله تعالى ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ )(7) ، فغريب من مثله ، لِما تقرّر في مباحث الإجتهاد والتقليد من أن الآية إرشاد إلى حسن السؤال بقصد التعلّم ، فهي في مقام الحثّ على الرجوع إلى أهل العلم والأخذ منهم ، ولا دلالة لها على حجيّة الفتوى ، ويشهد بذلك استدلال الإمام بها في إمامتهم عليهم السلام(8) .
(1) وسائل الشيعة 1 / 174 ، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، رقم : 1 .
(2) وسائل الشيعة 3 / 466 ، الباب 37 من أبواب النجاسات ، رقم : 1 .
(3) وسائل الشيعة 8 / 237 ، الباب 23 ، من أبواب الخلل ، رقم : 3 .
(4) وسائل الشيعة 6 / 317 ، الباب 13 ، من أبواب الركوع ، رقم : 3 .
(5) وسائل الشيعة 1 / 471 ، الباب 42 ، من أبواب الوضوء، رقم : 7 .
(6) في منية الطالب 3 / 386 : كقوله صلّى اللّه عليه وآله : «لا شكّ لكثير الشكّ ولا شكّ في النافلة » . وانظر الباب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصّلاة .
(7) سورة الأنبياء : 7 .
(8) انظر : البرهان في تفسير القرآن 3 / 423 .