إشكال الشيخ على النقطة الاولى
وقد أورد عليه الشيخ(1) :
أولاً : بمنع ما ذكره من عدم كون قبح التجري ذاتيّاً ، لأنّ التجرّي على المولى قبيح ذاتاً ، سواء كان لنفس الفعل أو لكشفه عن كونه جريئاً كالظلم بل هو قسم من الظلم . فيمتنع عروض الصفة المحسّنة له . وفي مقابله الانقياد للّه سبحانه ، فإنه يمتنع أن يعرض له جهة مقبّحة .
وحاصله : إن التجري علّة تامّة للقبح كالظلم ، وكيف يمكن أن يكون كالظلم أو ظلماً حقيقةً ولا يكون قبيحاً ، ولا يستحق عليه العقاب ؟
أقول :
ولا يرد عليه ما ذكره المحقق العراقي(2) من أنه يمكن أن يجاب عنه بإمكان أهمية مصلحة الواقع بالنسبة إلى مفسدة التجري في نظر المولى ، بنحو يمنع عن تأثير التجري في المبغوضيّة الفعليّة .
وجه عدم الورود : إن الكلام في الحسن والقبح لا في المصالح والمفاسد ، ففي باب الحسن والقبح تارةً : يكون الموضوع اقتضائياً كالصّدق والكذب ، واخرى : يكون علةً تامّة كالعدل والظلم ، فلو كان العنوان قبيحاً بالذات فلا يزول قبحه بترتب مصلحة عليه ، إلاّ إذا ارتفع الموضوع وتغيّر ، فإذا كان التجري قبيحاً ذاتاً فمع حفظ قبحه لا يكون طاعةً للمولى ولا يتّصف بالحسن .
هذا مراد الشيخ وهو متين .
نعم ، قد يقع التزاحم في المصالح والمفاسد ، ويكون أحد الطرفين أهم من الآخر فيتقدّم ويكون هو المؤثّر كما ذكر المحقق العراقي ، لكنه بحث آخر لا ربط له بما نحن فيه .
هذا في الجواب الأوّل .
وأجاب الشيخ عن كلام الفصول ثانياً فقال :
لو سلّمنا عدم كونه علّةً تامّةً للقبح كالظلم ، فلا شك في كونه مقتضياً له كالكذب ، وليس من قبيل الأفعال التي لا يدرك العقل بملاحظتها في أنفسها حسنها ولا قبحها . وحينئذ فيتوقف ارتفاع قبحه على انضمام جهة يتدارك بها قبحه ، كالكذب المتضمّن لإنجاء نبي .
ومن المعلوم أن ترك قتل المؤمن بوصف أن مؤمن في المثال الذي ذكره ـ كفعله ـ ليس من الامور التي تتّصف بحسن أو قبح ، للجهل بكونه قتل مؤمن ، ولذا اعترف في كلامه بأنه لو قتله كان معذوراً ، فإذا لم يكن هذا الفعل الذي تحقق التجرّي في ضمنه ممّا يتّصف بحسن أو قبح ، لم يؤثر في اقتضاء ما يقتضي القبح ، كما لا يؤثر في اقتضاء ما يقتضي الحسن لو فرض أمره بقتل كافر فقتل مؤمناً معتقداً كفره ، فإنه لا إشكال في مدحه من حيث الانقياد وعدم مزاحمة حسنه بكونه في الواقع قتل مؤمن(3) .
وحاصل الكلام :
إن الأحكام العقليّة تفارق الأحكام الشرعيّة ، من حيث أنّ الأحكام الشرعية تابعة للملاكات ، فالواجب واجب سواء احرز أوْلا ، وكذا الحرام ، بخلاف الأحكام العقلية ، فإنّ الإحراز دخيل فيها ، فلولا الاحراز والالتفات لم يتحقّق موضوع الحكم العقلي ، فلابدّ من الالتفات والقصد حتى يتحقّق ، وعليه ، فإنّ المحبوبيّة الواقعية للفعل إمّا تقع مورداً للالتفات وإمّا لا تقع ، فعلى الأوّل يرتفع القبح الاقتضائي للتجرّي ، وأمّا على الثاني فلا ، بل الفعل باق على قبحه ولا ينقلب حَسَناً ، لما تقدَّم من اعتبار الالتفات في حكم العقل بالحسن والقبح ، وإذا لم يتّصف الفعل بالحسن لم يصلح للمانعية عن اقتضاء التجرّي للقبح .
وهذا مراد الشيخ قدس سره وهو متين كذلك … .
وعلى هذا ، فإن إشكال المحقق العراقي : بأنّ غفلة المكلّف عن مصلحة الواقع إنما تمنع عن تأثيرها في المصلحة بحسب نظره الذي به قوام حكم عقله بالقبح ، وإلاّ فبالنسبة إلى نظر المولى العالم بالواقع والملتفت إلى الجهتين ، فلا تمنع غفلة المكلّف عن تأثير المصلحة التي هي أهم في نظره في المحبوبية الفعلية المانعة عن تأثير التجري في المبغوضية الفعلية والحرمة … (4) .
غير وارد على الشّيخ ، لأنّ كلام الشيخ غير ناظر إلى المصالح والمفاسد ، بل كلامه هو أنّ القبح المضاف إلى التجرّي بنحو الاقتضاء ـ على فرض التنزّل ـ إنما يرتفع بالحُسن ، وهو إنما يتحقّق في صورة الالتفات والقصد من الفاعل ، والمفروض انتفاؤهما ، فلا حسن حتى يزاحم القبح … .
هذا كلام الشيخ ، ولا يرد عليه ما ذكره العراقي .
(1) فرائد الاصول 1 / 43 .
(2) نهاية الأفكار ق 1 ج 3 ص 39 .
(3) فرائد الاصول 1 / 43 ـ 44 .
(4) نهاية الأفكار ق 1 ج 3 ص 39 .