إشكال الإيرواني في قابليّة الظنّ للحجيّة الشرعيّة
وللمحقق الإيرواني شبهةٌ في أصل قابليّة الظنّ للحجيّة الشرعيّة ، قال :
لا تثبت الحجّيّة بالجعل كي يكون غير الحجّة حجّة بإنشاء حجّيّته ، بل ما هو حجّة حجّة بحكم العقل ; إمّا مطلقاً أو في حال الانسداد ، وما ليس بحجّة لا يكون حجّة أبداً ، لا لأنّ الحجّيّة غير قابلة للجعل ، وإن كان الأمر كذلك ، بل لأنّ الحجّيّة إن كانت بالجعل لزم التسلسل إلى حجّة أخرى مثبتة للحجّة الأولى ، وهي إن كانت عقليّة كانت الحجّة في الحقيقة هي تلك الحجّة العقليّة لا هذه الشرعيّة ، وإن كانت حجّة جعليّة شرعيّة عادة ذكرناه أوّلاً ، وهكذا .
وبالجملة : لابدّ أن تكون الحجّيّة صادرة من باب العقل ، ولا محيص عن أن يكون مناخ رحال التكليف ببابه ، فصحّ أن يقال : ليست الحجّة إلا القطع ، أو الظنّ على الحكومة .(1)
أقول :
حاصله : إنه إن أنشأ الشارع الحجيّة للظنّ وقع السؤال عن الملاك لها ، فلو استدلّ عليها بالجعل ، سئل عن الملاك لذاك الجعل ، وهكذا يتسلسل .
وإذا تمت هذه الشبهة ، كانت الحجيّة منحصرةً بالقطع وبالظنّ الإنسدادي بناءً على الحكومة ، ولا تبقى حجيّة شرعيّة للأمارات .
لكنّ الشبهة تندفع :
أمّا نقضاً ، فبأنّ الحجيّة مجعولة من قبل الشارع في موارد ، كما في الروايات والأدعية والزيارات ، يقول صاحب الزمان عليه السلام في التوقيع المرويّ عنه : « وأمّا الحوادث الواقعة ، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة اللّه »(2) إذ مدلول الرواية جعل الحجيّة ، كما أنه في المقبولة ، إذ قال عليه السلام : « فإني قد جعلته عليكم حاكماً »(3) قد جعل الحكومة .
وأمّا حلاًّ ، فقد تقرّر أن كلّ ما بالعرض لابدّ وأنْ ينتهي إلى ما بالذات ، وهذا القانون ملاكه بطلان التسلسل ، فلولا انتهاء ما بالعرض إلى ما بالذات للزم التسلسل . . . وعليه ، فالحجيّة العرضيّة لابدّ وأنْ تنتهي إلى الحجّة بالذات ، ومنه يظهر أنّه الحجّة على قسمين ، ذاتيّة وعرضيّة ، والعرضية هي الجعليّة . فالانحصار الذي ادّعاه المحقق المذكور باطل ، وأن الظن يصلح لتعلّق الحجيّة به .
وحينئذ ، لا فرق بين ثبوت التكليف وسقوطه بالظن ، والترجيح بلا مرجح باطل ، وما احتمله صاحب الكفاية في كلام الخونساري لا يناسب شأنه ، لأن الضّرر المحتمل الذي لا يلزم دفعه ـ على القول به ـ غير الضرر الاخروي .
ولذا جاء في مصباح الاصول أنّ ما ذكره في الكفاية أجنبي عن المقام ، إذ الخلاف في لزوم دفع الضرر المحتمل وعدمه إنما هو في الضرر الدنيوي لا في الضرر الاخروي ، فإنه لم يخالف أحد في لزوم دفع الضرر المحتمل الاخروي مع تنجّز التكليف …(4) .
وعلى الجملة : إنه مع تنجّز التكليف يكون قاعدة لزوم دفع الضّرر المحتمل محكّماً ، وإلاّ جرت قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لتقدّمها على تلك القاعدة .
أمّا بناءً على القول بحكم العقل بحقّ الطّاعة للمولى في موارد الشك في ثبوت التكليف ، وتقدّم ذلك على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فإنّه يحكم به في موارد الشك في السقوط مع العلم بأصل الثبوت … .
لكنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان متقدّمة على قانون حقّ الطاعة وقانون لزوم دفع الضّرر المحتمل ، كما سيأتي بالتفصيل في محلّه إن شاء اللّه ، فلا مجال لما ذكره السيّد الصّدر(5) في هذا المقام .
(1) حاشية الكفاية 2 / 478 .
(2) وسائل الشيعة 27 / 140 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، رقم : 9 .
(3) وسائل الشيعة 27 / 137 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، رقم : 1 .
(4) مصباح الاصول 2 / 89 .
(5) بحوث في علم الاصول 4 / 187 ـ 188 .