نقد ما استدل به للعدم
ثم تعرّض لما يستدلّ به للقول بعدم الجواز، وهي وجوه أربعة:
الأول: إنه إذا جاز تخصيص الكتاب بخبر الواحد، جاز نسخه به كذلك. والتالي باطلٌ بالإجماع فالمقدَّم مثله. ووجه الملازمة: هو أن النسخ أيضاً تخصيصٌ لكنّه يرجع إلى الأزمان والتخصيص يرجع إلى الأفراد.
والجواب: بالفرق من جهة الإجماع، فإنّه قائم في النسخ على العدم، أمّا في التخصيص فهو قائم على الجواز بين القائلين بحجية خبر الواحد.
الثاني: إن الدليل على حجيّة خبر الواحد هو الإجماع، وهو دليل لبّي يؤخذ بالقدر المتيقن منه، وهو غير المخالف لعموم الكتابي، ولو بالعموم والخصوص المطلق.
والجواب: لا إجماع على حجيّة خبر الواحد.
وعلى فرضه، فالدليل على حجيّته غير منحصر به.
وإن الأخذ بالقدر المتيقن، إنما يكون من الإجماع التعبدي، والإجماع على حجيّة خبر الواحد إنْ كان، فهو مستند إلى الأخبار والسّيرة.
ثم إنّ الإجماع قائم على تخصيص الكتاب بخبر الواحد، فأين القدر المتيقن من الإجماع على حجيّة خبر الواحد؟
الثالث: الأخبار الكثيرة الآمرة بطرح كلّ خبر خالف الكتاب(1)، أو أنه زخرف(2)، أو أنه مما لم يقل به الأئمة عليهم السلام(3).
والجواب: إنّ المخالفة بالعموم والخصوص المطلق ليست مخالفةً عرفاً، بل الخاص عند أهل العرف قرينة على العام، وليس بين القرينة وذيها مخالفة، فالأخبار المذكورة مختصة بالمخالفة على وجه التباين. قاله صاحب (الكفاية) وغيره(4).
إلاّ أن الأُستاذ تنظّر في هذا الجواب ـ في الدورة اللاّحقة ـ بما حاصله: أن المخالفة بالعموم والخصوص المطلق هو بالسلب والإيجاب، فإمّا يكون الكتاب دالاًّ على العموم موجبة كليّة فيأتي الخبر على خلافه بصورة السالبة الجزئية، وإمّا يكون بالعكس، ومن الواضح أن السّلب والإيجاب متناقضان بحكم العقل والمتناقضان لا يجتمعان، فكيف يكون الجمع بين العام والخاصّ عرفيّاً؟ وكيف يدّعى عدم المخالفة عرفاً بين العام والخاص المطلق؟
هذا أوّلاً.
وثانياً: إنه قد أطلق عنوان المخالفة على موارد العموم والخصوص المطلق في أخبار باب التعارض، كصحيحة القطب الراوندي «ما وافق الكتاب فخذوه وما خالف فدعوه»(5) وكمقبولة عمر بن حنظلة(6)، إذ ليس المراد من المخالفة هذه التباين، وإلاّ لم تصل النوبة إلى التعارض والترجيح… وحمل هذا الإستعمال على المجاز غير صحيح لعدم العناية.
فالأولى: أن يقال بشمول «المخالف» للخاصّ المطلق بالنسبة إلى العام الكتابي، لكنّ علمنا بصدور الأخبار المخالفة بالعموم والخصوص المطلق عنهم عليهم السلام يوجب حمل كلمة المخالف في مثل «ما خالف كتاب اللّه فهو زخرف» على المخالفة بالتباين. وأيضاً، فإنّ الأخبار الواردة في باب التعادل والتراجيح دليل على أن المخالف للكتاب حجة، غير أنّ الموافق له لدى التعارض بينهما هو المقدَّم، فالمخالفة هذه بالعموم والخصوص المطلق لا التباين، لأن المباين ليس بحجة مطلقاً.
الرابع: إنّ العام الكتابيّ قطعيّ الصدور وخبر الواحد ظنّي، وتخصيص الكتاب به رفع اليد عن العلم بالظن وهو غير جائز.
والجواب: إنّه من حيث السند، لا كلام في قطعيّة الكتاب وظنيّة خبر الواحد، لكنّ الكلام ليس في جهة السند، بل في الدلالة، وليست دلالة الآية العامّة في معناها بقطعية، فإن أصالة الظهور في العام ظنيّة كما هي في طرف الخبر، فلا يقع التعارض بين القطعي والظنّي… وحينئذ نقول: بأنّ انعقاد الظهور في طرف العام الكتابي معلّق على عدم وجود القرينة على الخلاف، وقد تقدَّم أن الخبر قرينة، فلا ينعقد الظهور في العام بل يتقدّم الخبر عليه.
وعلى الجملة، فإنه لا تنافي بين المدلولين، ودليل حجيّة الخبر يتقدَّم بالحكومة على أصالة العموم في طرف الكتاب، لكونه أصلاً معلّقاً على عدم وجوب الخاصّ وجداناً أو تعبّداً، ولو قيل بالتعارض بين عموم الكتاب وما ورد في الكتب المعتبرة من المخصّصات، لزم سقوط عمدة الأخبار كما قال الميرزا(7).
وأمّا ما أفاده تلميذه المحقق في الهامش من أن العمومات الكتابيّة في مقام التشريع لا البيان، فلا يقع التعارض بينها وبين الأخبار.
ففيه: إن عدّةً منها في مقام البيان يقيناً، ويشهد بذلك استدلال الأئمة عليهم السّلام بظواهرها في كثير من الموارد، كاستدلاله عليه السلام بظاهر قوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)(8) كما في معتبرة عبيد بن زرارة(9).
وأيضاً، فلولا كون (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ)(10) في مقام البيان، لكان البحث عن تخصيصه بمثل «نهى النبي عن بيع الغرر»(11) لغواً، وكذلك يلزم لغويّة البحث عن تخصيص (حَرَّمَ الرِّبا)(12) بما ورد في الأخبار من(13) حليّته، وكذا الكلام في (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(14) و(إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراض)(15) ونحو ذلك.
على أنّ المحقق المذكور، قد تمسّك في غير موضع من بحوثه الفقهية بظواهر تلك العمومات والإطلاقات، كما في مسائل الحج والجهاد والخمس وغيرها.
(1) وسائل الشيعة 27 / 110، الباب 9 من كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، رقم 10.
(2) وسائل الشيعة 27 / 111، الباب 9 من كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، رقم 14.
(3) وسائل الشيعة 27 / 111، الباب 9 أبواب صفات القاضي، رقم 15.
(4) كفاية الاصول: 237.
(5) وسائل الشيعة 20 / 464، الباب 20 من أبواب يحرم بالمصاهرة ونحوها، رقم 3 و 4.
(6) وسائل الشيعة 27 / 136، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، رقم 1.
(7) أجود التقريرات 2 / 390 ـ 391.
(8) سورة البقرة: الآية 185.
(9) وسائل الشيعة 10 / 176، الباب 1 من أبواب وجوب الإفطار في السفر في شهر رمضان، رقم: 8.
(10) سورة البقرة: الآية 275.
(11) وسائل الشيعة 17 / 448، الباب 40 من أبواب آداب التجارة، رقم 3.
(12) سورة البقرة: الآية 275.
(13) وسائل الشيعة 18 / 135، الباب 7 من أبواب الربا، رقم 1 و 2.
(14) سورة المائدة: الآية 1.
(15) سورة النساء: الآية 29.