مقدّمات
ولابدّ من بيان اُمور قبل الورود في البحث:
الأمر الأول: إنّ المعنى المبحوث عنه في الباب له أقسام، فهو إمّا حرفي وإمّا اسمي.
أمّا المعنى الحرفي، فإنه إنما يدخل في البحث، بناءً على كون الوضع فيه عامّاً والموضوع له عام، وأمّا بناءً على كون الموضوع له خاصّاً وأنه جزئي حقيقي، فإنّ الجزء الحقيقي لا يقبل التوسعة والتضييق، نعم، هو قابل لبحث الإطلاق والتقييد بمعنى آخر مطروح في بحث الواجب المشروط.
وأمّا المعني الاسمي، فهو تركيبي وأفرادي.
أمّا التركيبي، كما في الجُمل، حيث يبحث عن أنّ إطلاق صيغة الأمر هل يقتضي العينيّة والنفسيّة والتعيينيّة أو لا؟ والجملة الشرطية هل يقتضي إطلاقها الإنتفاء عند الإنتفاء أو لا؟
وهذا القسم خارج عن البحث، لأنّ الدلالة على الإطلاق والتقييد فيه إنما يكون على أثر الخصوصيّات المأخوذة في الكلام، كما يقال: الإطلاق في مقابل «أو» والإطلاق في مقابل «الواو».
وأمّا الأفرادي، فهو إمّا علم للشّخص وإمّا علم للجنس.
لكنّ الإطلاق والتقييد في علم الشخص أحوالي، فإنّ لـ«زيد» مثلاً أحوالاً كثيرة، من القيام والقعود والصحّة والمرض والغنى والفقر… لكنّ الخلاف المشهور في حقيقة الإطلاق بين سلطان العلماء(1) وغيره ـ كما سيأتي ـ غير آت في الإطلاق الأحوالي، نعم، يكون هو المرجع في المسائل الفقهية، وهذا أمر آخر.
فتبيَّن: أن موضوع البحث ومورد النقض والإبرام هو علم الجنس كالإنسان ونحوه.
فالحاصل: إن موضوع البحث هو المعنى الاسمي الأفرادي لا الأحوالي.
الأمر الثاني: إنه لمّا كان دخول اللاّبشرطيّة وعدمه في حيّز المعنى مورد البحث بين الأعلام كما سيأتي، فلابدَّ من فهم معنى البشرط واللاّبشرط في موارد استعمال هذين الإصطلاحين وغيرهما في كلماتهم، فنقول:
لقد استعمل هذه الاصطلاحات في ثلاثة موارد:
الأول: الوجود
فقد قسّموا الوجود إلى: «بشرط لا» و«لا بشرط» و«بشرط».
فقالوا: بأنّ الأوّل هو وجود الباري عز وجل، فهو وجود بشرط لا عن جميع الحدود، لأنه وجود مجرَّد عنها، لأن الحدود تنشأ من الماهية ولا ماهيّة هناك.
والثاني هو: الوجود المنبسط والإضافة الإشراقية والرحمة الواسعة الحسينية وكنْ البسيطة، وهذا الوجود فعل الباري، ويعبَّر عنه في العرفان بالاسم الأعظم.
والثالث: هو الوجود المضاف إلى الماهيّات، كوجود الإنسان.
الثاني: الجنس والفصل.
أي: اللاّبشرط والبشرط لا في باب الحمل، وذاك أنّ الموجودات الخارجيّة ذات الآثار، كالإنسان والبقر وغيرهما، لها جهة اشتراك تصدق على أنواع مختلفة وجهة اختصاص كالحيوانية والناطقية. فالحيوان ـ مثلاً ـ إنْ لوحظ لا بشرط عن قابليّة الحمل كان «جنساً» وقابلاً للحمل فتقول: الإنسان حيوان، والبقر حيوان وهكذا. وكذلك الجهة الاختصاصيّة، فإنْها إذا لوحظت لا بشرط عن قابليّة الحمل والاتّحاد مع الجنس كانت «فصلاً».
ولو لوحظ الجنس والفصل بلحاظ البشرط لا عن الحمل، لم يقبل الفصل لأنْ يحمل على الجنس، وفي هذه الحالة يعبّرون عن الجنس بالمادّة وعن الفصل بالصّورة.
الثالث: الأوصاف والضمائم الخارجة عن الذات.
أي: إنّ الماهيّة قد تلحظ بالنسبة إلى الوصف الخارج عن الذات لا بشرط، وقد تلحظ بشرط لا، وقد تلحظ بشرط.
فالرقبة عندما تلحظ بالقياس إلى الإيمان، فتارة تلحظ بشرطه فتكون مقيَّدة به، وقد تلحظ بشرط لا عنه فتكون مقيَّدة بعدمه، وقد تلحظ لا بشرط، فهي ماهيّة غير مقيَّدة لا بهذا ولا ذاك. وكذلك الإنسان بالنسبة إلى العلم.
فهذه ثلاثة اعتبارات بالنسبة إلى ما هو خارج عن الذات.
إذا عرفت ذلك، فاعلم بأنَّ:
مدار البحث في علم الاصول ـ في باب المطلق والمقيَّد ـ هو هذا المورد الثالث، وهو اللاّبشرطية في الماهيّات… فوقع الكلام بينهم في أنّ هذه اللاّبشرطيّة داخلة في حريم المعنى الموضوع له لفظ «الرقبة» مثلاً، وأنْ معناه هو الذات اللاّبشرط عن وجود الإيمان وعدمه، أو أنْ هذا اللّفظ موضوع للذات، وحيثيّة اللاّبشرطية المذكورة خارجة عن المعنى الموضوع له، ومستفادة من القرينة المعبَّر عنها بـ«مقدّمات الحكمة».
قال المشهور بالأول، وقال سلطان العلماء بالثاني وتبعه من تأخّر عنه.
(1) هو: السيد الأجل الحسين بن رفيع الدين محمّد الحسيني الآملي الإصبهاني المتوفى سنة 1064.