مفهوم الغاية
الاستدلال لثبوت المفهوم
ذكروا لإثبات المفهوم وجوهاً:
الأول: ما ذكره المحقق الخراساني(1) وحاصله:
إنّ الغاية إن كانت قيداً للحكم كما في «كلّ شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام»(2) فمقتضى القاعدة ثبوت المفهوم، وإنْ كانت قيداً للموضوع مثل (أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ)(3) فلا.
والدليل على ثبوته هناك، هو التبادر وحكم العقل بانتفاء الحكم، وإلاّ فلو كان ثابتاً بعد الغاية لزم لغوية التقييد بها.
وأمّا اعتبار أن يكون الحكم المغيّى سنخيّاً لا شخصيّاً، فذلك يتمُّ على مبنى صاحب (الكفاية)، من جهة أن الحكم المغيّى إن كان اسميّاً كما في الخبر المذكور فلا إشكال، لأن مدلول «حلال» هو طبيعة الحليّة فليس شخصيّاً. وإن كان حرفيّاً، فإنّ المعاني الحرفية عنده عامّة وليست بجزئية، وإنما تتحقّق الجزئية لها بالاستعمال… فالسنخيّة على كلّ تقدير حاصله للحكم والإشكال مندفع.
هذا، ولا يخفى أن التمثيل بالحديث المزبور مبنيٌّ على ما ذكره في مبحث الاستصحاب من أن «الحليّة» فيه حكم واقعي و«حتى تعرف» غايةٌ تدلّ على الاستصحاب، وحاصل الحديث: إنّ الحليّة ـ التي هي حكم واقعي لا ظاهري، ومجعول على الأشياء الخارجيّة ـ مستمرةٌ ثابتة حتى تعلم أنّ الشيء حرام… خلافاً لمن يرى أنّ مدلول الحديث حكم ظاهري مثل «كلّ شيء لك طاهر»(4).
وأيضاً: لا يخفى أنّ تمثيله به لإفادة التحديد للحكم، ولا نظر له إلى أن كون هذا التحديد مولوياً أو عقليّاً، وإنْ كان هو عقليّاً.
هذا توضيح كلامه في الدلالة على المفهوم إن كان القيد قيداً للحكم.
وأمّا إن كان قيداً للموضوع، فلا دلالة عليه، بل هو ملحق بالوصف، لأنه مع الإنتفاء ينتفي الموضوع، فتكون القضيّة سالبةً بانتفاء الموضوع.
نعم، تفيد الغاية فائدة الوصف من الأهمية أو دفع التوهّم أو غير ذلك، مما ذكر هناك.
والثاني: ما ذكره الميرزا رحمه اللّه: من أنه كلّما جاءت الغاية قيداً لمعنى أفرادي فلا يتحقق لها المفهوم، ومتى ما كانت قيداً لمفاد جملة مركّبة فالمفهوم ثابت.
هذا بحسب مقام الثبوت.
وأما الإثبات، فهو يرى أن الغاية إنما يؤتى بها في الكلام قيداً لمدلول الجملة وبعد المادّة المنتسبة ـ حسب اصطلاحه ـ، فلمّا يقال مثلاً: سر من البصرة إلى الكوفة، تجعل (إلى) قيداً لـ(سر) وهو جملة وليس بمفهوم إفرادي، وبعبارته الاصطلاحية: هو مادّةٌ وقعت تحت النسبة وورد عليها الحكم الوجوبي، فيكون القيد راجعاً إلى الحكم دون الموضوع ويتحقّق له المفهوم.
والثالث: ما ذكره المحقق العراقي: من أنّ الغاية إن كانت قيداً للحكم، فلا دلالة لها على المفهوم، وكذا إن كانت قيداً للموضوع، بل إنّها تدلّ على المفهوم إن كانت قيداً للنسبة الحكمية، فإنّها حينئذ تصبح كالشرط، ببيان: أن مقتضى الإطلاق الذي ذكر في مبحث الشرط هو انحصار سنخ الحكم بشخص الحكم المنشأ، ثمّ حدّدت النسبة الحكمية بحدٍّ، وهذا هو الدلالة على المفهوم. فلو قال: أكرم زيداً إلى الليل، كان ظاهراً في الانحصار بشخص هذا الحكم، ولما قيّدت هذه النسبة الحكمية «إلى الليل» دلّ الكلام على انتفاء وجوب الإكرام بانتفاء النهار ودخول الليل. فكلام المحقق العراقي ناظر إلى مقام الإثبات.
والرّابع: ما ذكره المحقق الخوئي في (المحاضرات)(5) من أن الغاية إن كانت قيداً للموضوع رجع دلالتها على المفهوم إلى دلالة الوصف عليه، لأن المراد من الوصف هو الأعمّ من الوصف الإصطلاحي والحال والتمييز وما شاكل ذلك، فيكون التقييد بالغاية من صغريات التقييد بالوصف.
وإن كانت قيداً للحكم، فالكلام تارةً: في مقام الثبوت، واخرى: في مقام الإثبات.
أمّا في المقام الأوّل: فلا شبهة في الدلالة على الإنتفاء عند تحقق الغاية، بل لا يبعد أن يقال بأن دلالتها على المفهوم أقوى من الشرط، ضرورة أنه لولا دلالته على ذلك يلزم أن لا يكون ما فرض غايةً غايةً. وهذا خلف.
وأمّا في المقام الثاني: فالظاهر أنّ الغاية قيد للفعل وهو المتعلّق دون الموضوع كسائر القيود. وأمّا رجوعه إلى الموضوع، فيحتاج إلى قرينة كما في الآية (فَاغْسِلُوا…)، إذ أنّ (إِلَى الْمَرافِقِ) قيد للموضوع وهو اليد لا للمتعلّق وهو الغسل، وكذا الأمر في (إِلَى الْكَعْبَيْنِ)(6) فإنه غاية لتحديد الممسوح. هذا كلّه فيما إذا كان الحكم في القضية مستفاداً من الهيئة. وأما إذا كان مستفاداً من مادّة الكلام، فإن لم يكن المتعلّق مذكوراً فيه كقولنا: يحرم الخمر إلاّ أن يضطرّ المكلّف إليه، فلا شبهة في ظهور الكلام في رجوع القيد إلى الحكم. وأما إنْ كان مذكوراً فيه كما في قولنا: يجب الصيام إلى الليل، فلا يكون للقضية ظهور في رجوع الغاية إلى الحكم أو إلى المتعلّق، فلا تكون لها دلالة على المفهوم ما لم تقم قرينة من الداخل أو الخارج عليها.
والحاصل: إن الحكم في القضية إنْ كان مستفاداً من الهيئة، فالظاهر من الغاية كونها قيداً للمتعلّق لا للموضوع، والوجه فيه ليس ما ذكره جماعة منهم شيخنا الأُستاذ من أن مفاد الهيئة معنى حرفي، وهو غير قابل للتقييد، وذلك لما حقّقناه في بحث الواجب المشروط من أنه لا مانع من رجوع القيد إلى مفاد الهيئة، بل الوجه فيه هو أن القضية في أمثال الموارد في نفسها ظاهرة في رجوع القيد إلى المتعلّق والمعنى الاسمي دون الحكم ومفاد الهيئة.
وإنْ كان الحكم مستفاداً من مادّة الكلام، فقد عرفت ظهور القيد في رجوعه إلى الحكم إن لم يكن مذكوراً، وإلاّ فلا ظهور له في شيء منهما فلا دلالة، إلاّ بمعونة القرينة.
(1) كفاية الاصول: 208.
(2) وسائل الشيعة 25 / 119، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، رقم: 7 مع اختلاف في اللفظ.
(3) سورة البقرة: الآية 187.
(4) وسائل الشيعة 3 / 476، الباب 25، الرقم: 4. بلفظ «نظيف».
(5) محاضرات في اصول الفقه 4 / 282 ـ 283.
(6) سورة المائدة: الآية 6.