مستند أصالة البيان
وأمّا المستند للأصل المذكور، فقد ذكر له وجوه:
الأول: إنه مقتضى الطبع. لأنّ مقتضى الحال وطبع الطلب أنْ يكون المتكلّم في مقام بيان مقصده باللّفظ، نظير قول الفقهاء: بأنّ الأصل في المبيع هو السّلامة من العيب، لكونه مقتضى الطبع الأولي.
وفيه: إنّ هذا الوجه لا يكفي لأنْ يؤخذ بإطلاق الكلام، لأنْ المفروض أنّ المتكلّم قد استعمل اللّفظ ـ اسم الجنس مثلاً ـ في معناه الموضوع له، وأنّ الإطلاق غير داخل فيه، فمع الشك في كونه في مقام بيان تمام مراده أيّ معنى لمقتضى الطبع الأوّلي ليحمل الكلام على الإطلاق؟
الثاني: أصالة التطابق بين مقام الثبوت ومقام الإثبات. فالإطلاق في مقام الثبوت أن يكون فرد المتكلّم هو الطبيعة. ولمّا لم يأتِ في مقام الإثبات بقيد وكان الكلام ظاهراً في الإطلاق حصل التطابق، ولو كان مهملاً في مقام الثبوت لما حصل.
وفيه: إنه مع احتمال كون المتكلّم مهملاً في مقام الإثبات، لا يحصل الكشف عن مقام الثبوت والتطابق بين المقامين، والمفروض هو الشك في مقام الإثبات.
الثالث: السيرة العقلائية. فقد جرت سيرة أهل المحاورات على التمسّك بالإطلاقات فيما إذا لم يكن هناك ما يوجب صرف الكلام إلى جهة خاصّة.
هكذا استدلّ في (الكفاية)(1)، بل في (المحاضرات)(2) نسبته إلى المشهور المعروف بين الأصحاب.
وقد أشكل عليه في (المحاضرات) بما حاصله: بأنّه ينفع في ما لو شك في أصل كون المتكلّم في مقام البيان أو الإهمال. أمّا لو شك في حدّ المراد كما هو الحال في مثل قوله تعالى (فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)(3) في أنّه يريد الحليّة أو هي والطّهارة معاً، فلا سيرة من العقلاء على جعل الكلام في مقام البيان من جهة الطّهارة أيضاً.
وأشكل الأُستاذ من ناحية اخرى، فاعترف بتمامية السّيرة إلاّ أنها إنما تجري في كلام من دأبه بيان الخصوصيات في مجلس واحد، وليس دأب الشارع هكذا، فإنّ الخصوصيّات الدخيلة في الأحكام الشرعية قد ذكرت على لسان أحد الأئمة بعد أن جاءت المطلقات في القرآن أو في كلام النبي… والحاصل: إنّ العقلاء إذا عملوا بأن دأب المتكلّم هكذا، لا يتمسّكون بإطلاق كلامه، بل سيرتهم في كلامه قائمة على على التوقف.
فالتحقيق هو التفصيل بين كلام غير الشارع ممن دأبه إعطاء الخصوصيّات في المجلس الواحد، فالسيرة العقلائية جارية على الأخذ بإطلاق كلامه، وبين كلام الشارع، ففي كلامه يكون المستند للإطلاق هو سيرة المتشرعة، فإنّ أصحاب الأئمّة عليهم السلام وغيرهم لمّا كانوا يرجعون إليهم ويأخذون الحكم الشرعي منهم، ما كانوا ينتظرون شيئاً، بل كانوا يذهبون ويعملون بما أخذوه، بل كان بعضهم ربما لا يرى الإمام بعد تلك الجلسة… فهذه السيرة غير المردوعة من الأئمة هي المستند لأصالة البيان والأخذ بإطلاق الكلام بلا توقف.
وهذا تمام الكلام في المقدمة الاولى.
(1) كفاية الاصول: 248.
(2) محاضرات في اصول الفقه 4 / 535.
(3) سورة المائدة: الآية 4.